في المقدمة، يستحق وزير الخارجية الزنداني التحية بدل الشجب لرميه حجرًا مفيدًا في بحيرة الأداء السياسي الراكدة لشركاء سلطة الشرعية، وأولهم ومن يهمنا فيهم المجلس الانتقالي الجنوبي.
1. الوزير الزنداني أقرب للتكنوقراط أكثر من أن يكون ممثلاً لأي طرف سياسي في سلطة الشرعية، والتكنوقراط دائمًا هم قيادة تنفيذية تترجم البرامج التي وُضعت لهم وتلتزم بالسياسات المنصوص عليها بقوانين أو اتفاقيات واضحة.
2. وعلى الواقع، لا يوجد حتى اليوم أي حل متفق عليه بين الشركاء المحليين في سلطة الشرعية أو بينهم وبين الحوثي، لا بخيار الأقاليم ولا بحل الدولتين ولا بأي بديل آخر.
وإذا كان أي شيء من ذلك متوفر باتفاق أو حتى بتفاهمات داخلية موثوقة (وليس مناورات لاستدراج واحتواء "الغبي" في هذه اللعبة السياسية)، لو كان مثل هذا الأمر موجودًا لما طالت الحرب عقدًا كاملاً منذ 2015، وذاهبون الآن في العقد الثاني لفترة قادمة غير محدودة.
3. أقول ما تقدّم في النقطة السابقة لأن أي تفاهمات داخلية كانت كفيلة بتقوية الأطراف المشاركة فيها، حتى وإن اقتصرت على الأطراف المشاركة في سلطة الشرعية، وتحويلها إلى طرف أساسي في تحديد مسار ملف الحرب في اليمن، بينما الأطراف الأخرى مجرد أطراف مساعدة، بما فيها الأطراف الخارجية، وليس العكس وهو الذي يحصل اليوم بكل أسف.
ولا ندري كم سيحتاج أعضاء مجلس القيادة الرئاسي من الوقت حتى يدركوا هذا الأمر ويتصرفوا بموجبه.
4. نأتي الآن للطرف السياسي الذي يهمنا نتائجه في هذه المعركة السياسية الواسعة والطويلة، وهو المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي احتج بلغة حادة واتهم وزير الخارجية بالتنكر لتفاهمات قد تمت مع الشركاء بالداخل وبالخارج بشكل أوثق على حل يستوعب القضية الجنوبية بشكل صحيح وعادل.
وهنا يستحق الزنداني الشكر للمرة الثانية لأنه أعاد لنا ظهور الناطق الرسمي للانتقالي، الذي بدأ مهمته بشكل محترف ورائع من خلال البيان الأسبوعي الموجز لموقف الانتقالي من الأحداث خلال الأسبوع، لكنه توقف منذ شهرين بعد القرارات الجمهورية لنائب رئيس المجلس القيادي.
5. بكل المحبة، أوجه رسالة موجزة للانتقالي في هذا الأمر من أربع نقاط:
أولاً: التفاهمات السياسية مع الدول الراعية لملف الحرب في اليمن أو مع أي طرف محلي تبقى مجرد تفاهمات غير ملزمة قانونيًا أو سياسيًا لأي طرف، طالما هي في إطار الغرف المغلقة ولم يعلنها أي طرف بموقف رسمي علني، مثل تفاهمات دول مجلس التعاون الخليجي مع الرئيس البيض أثناء حرب 1994، حيث تبخرت تلك الوعود بالاعتراف بالدولة التي أعلنها البيض في 21 مايو 1994 بمجرد تحول المعركة العسكرية على الأرض وسقوط حضرموت قبل عدن لصالح صنعاء.
والعبرة من ذلك أن التفاهمات السياسية لا يمكن حمايتها إلا بخيارين لا ثالث لهما: الأول، موقف رسمي علني من الأطراف التي تفاهمت معها، أو الخيار الثاني، تعزيز النجاح على الأرض بحيث يبقى ثقلك عند الأطراف التي تفاهمت معها دون اهتزاز، ففي 1994 كان الفشل العسكري في حضرموت سبب تبخر الوعود الخليجية بالاعتراف.
وفي حالتنا الآن، دخل الانتقالي معركة سياسية كبيرة منذ مشاركته في أعلى سلطة للحكم (رئاسة الدولة)، لكنه بقي يعمل بآليات ما قبل المشاركة في إدارة الدولة، واعتبر أن نجاح خطابه السياسي يكفي للحفاظ على المكاسب التي حققها، ولم يهتم أكثر بأدائه السياسي في إدارة الدولة، وهذا مربط الفرس.
وعليه، أنصح قيادة الانتقالي بمراجعة المرحلة، وهل أداءها السياسي في إدارة الدولة موفق وكافٍ أمام شعبها الذي فوضها وأمام شركائها دون اهتزاز في هذا الرهان.
ويبقى القول إن الخطاب السياسي والحديث في السياسة أمر سهل ولا يحتاج لكثير من الحسابات، لكن ممارسة العمل السياسي المحترف في إدارة الدولة أمر مختلف تمامًا.
ثانيًا: تدرك قيادة الانتقالي أن جميع الأطراف الخارجية مجمعة على أولوية دعم برنامج الإصلاحات للحكومة كمدخل لحل التحديات الداخلية الأخرى. ولهذا الاعتبار من المهم أن يستوعب الانتقالي هذا التوجه الخارجي الداعم في أدائه السياسي، ويحوله إلى فرصة لكسب رضا المواطن وثقة الخارج في وقت واحد، من خلال دعم نجاح برنامج الإصلاح الحكومي والعودة لتفعيل الهيئة التنفيذية العليا للانتقالي، وأن يكون الشريك الأبرز في التصحيح الاقتصادي، وليس العكس. وهنا يأتي موضوع صوابية الأداء السياسي من عدمه.
ثالثًا: نذكر أنفسنا جميعًا من خلال تجاربنا المريرة التي كانت المقدمة لضياع تجربة الدولة بالجنوب قبل قرار الوحدة بمحطتين:
المحطة الأولى: القضاء على سالمين، ومعه تم التخلص بطابور وازن من القيادات الجنوبية، وكان الرفاق بعد هذه المحطة يشرحون للرأي العام أن سبب الخلاف مع سالمين كان بسبب تضخم دوره الفردي وتدخله الشخصي في كل صغيرة وكبيرة على حساب دور المؤسسات.
المحطة الثانية: كارثة يناير 1986، التي قصمت ظهر الجنوب من حيث حجم خسارة الدولة للقيادات من الطرفين، وكان أحد أسباب الصراع هو تفرد الرئيس علي ناصر بالسلطة السياسية والتشريعية والتنفيذية للدولة.
وفي الحالتين، كانت الخلافات القيادية في الصف الأول للدولة هي الأساس في ذلك الصراع وما نتج عنه من كوارث، ولم يكن هناك قضية خلافية جوهرية على مستوى القاعدة وبين أفراد الشعب.
وعليه، أتمنى بروح الحكمة والمسؤولية ألا توفر قيادة الانتقالي على المستوى التنظيمي أي مقدمات وشروط تشجع على إعادة ظهور مثل هذا السيناريو الخطير في جسم الصف القيادي للانتقالي. الحذر، الحذر.
رابعًا: طالما تبني الانتقالي مهمة الاحتفال بذكرى الاستقلال النوفمبري بشكل يليق بمعنى الاستقلال وسيادة القرار الوطني، فأغتقد أن أفضل شكل لهذا الاحتفال ليس تكرار التجمعات الجماهيرية في الميادين، ولكن من خلال تفعيل دور العمل المؤسسي داخل الانتقالي، وأولها انعقاد الجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي وانتظامها، وإعطائها الثقل الوطني الذي تستحقه، بما فيها القرارات السيادية لمشروع الدولة الجنوبية، مثلها مثل أي سلطة تشريعية بالعالم، وأن كل الاتفاقيات الخارجية للقيادة الجنوبية المتعلقة بمستقبل القضية الجنوبية لا تُعتبر ملزمة جنوبًا إلا بمصادقة الجمعية الوطنية. وهذا يخفف الحمل على القيادة السياسية ويعطيها مجالًا أوسع للمناورة في أي مفاوضات سياسية قادمة.