لم يكن مشهد تحرير عدن في عام 2015 مجرد حدث عابر في مسيرة الصراع الجنوبي اليمني، بل كان لحظة فارقة أعادت رسم الخريطة السياسية للجنوب. فتحرير العاصمة التاريخية للجنوب العربي لم يكن عملاً عسكرياً فحسب، بل تجسيداً لإرادة شعب ظل يحلم باستعادة دولته التي اغتُصبت عام 1990. وبحسب الأعراف السياسية والقانونية الدولية، فإن تحرير العاصمة يكفي لإعلان استقلال أي بلد او دولة، حتى لو بقت بعض المناطق الاخرى تحت سيطرة الاحتلال ولكن في الجنوب لم يقتصر التحرير على العاصمة عدن فقط بل امتد ليشمل معظم جغرافيا الجنوب.
لكن قصة الجنوب العربي بعد التحرير تحولت إلى ملحمة سياسية معقدة، تختزل إشكاليات الواقع الجنوبي برمته. فبعد عامين من التحرير، وتحديداً في الرابع من مايو 2017، شهدت ساحة العروض في خورمكسر مشهداً استثنائياً. اذ توافد آلاف الجنوبيين من مختلف المدن والمناطق لتفويض عيدروس الزبيدي بمهمة إعلان الاستقلال وتشكيل حكومة جنوبية انتقالية. حيث كانت هذه اللحظة تاريخية بكل المقاييس، بعد ان اجتمعت مقومات الدولة من أرض محررة وشعب موحد وإرادة واضحة.
لكن المسار السياسي الذي تلا ذلك التفويض الجماهيري تحول إلى لغز محير. فبدلاً من المضي قدماً في إعلان الاستقلال خلال الأشهر الثلاثة اللاحقة، اقتصر الأمر على تشكيل مجلس انتقالي جنوبي متكامل، بينما ظل حلم الدولة معلقاً. فمرت تسع سنوات على ذلك التفويض، تحول الاستقلال خلالها من هدف قريب إلى طموح بعيد، رغم توفر جميع عناصر قيام الدولة الفعلية، بل وتفوقت القوات الجنوبية التي تم تشكيلها لاحقا على قوات الاحتلال.
التطور الأكثر إثارة جاء في عام 2019، عندما اندلعت اشتباكات دامية بين قوات المجلس الانتقالي وقوات الشرعية علي خلفية اغتيال القائد الجنوبي العميد ابو اليمامة، وانتهت بطرد الأخيرة من عدن بعد سقوط عشرات الشهداء الجنوبيين من قوات المجلس الانتقالي،. وكان الرد الشعبي على هذه التطورات مذهلاً، حيث تدفق الجنوبيون من كل حدب وصوب إلى عدن علي نفقتهم الخاصة ورغم ظروفهم المأساوية، في مشهد جماهيري مهيب وغير مسبوق، ملأ ساحة العروض والملاعب والشوارع في المدينة قبل يوم من الفعالية المقررة.
وفي اليوم التالي، شهدت عدن مليونية تاريخية، لم يشهدها الجنوب من قبل اكبر بكثير جدا من تلك التي منحت عيدروس الزبيدي التفويض، تأييداً لخطوات المجلس الانتقالي التي تمثلت في طرد قوات الشرعية وحكومتها من عدن في مشهد اكد وبما لا يدع مجالا للشك فيه أن الإرادة الشعبية الجنوبية قد بلغت ذروتها، وأن اللحظة التاريخية لإعلان الاستقلال قد حانت.
لكن المفاجأة الصادمة جاءت بعد بضعة أشهر، عندما وقّع المجلس الانتقالي اتفاق الشراكة مع الشرعية، الذي قضى بعودتها إلى عدن معززة مكرمة وكان شيئا لم يحدث اذ كان القرار مفاجئاً لكل من تابع المسار الجنوبي، حيث تجاهل إرادة الجماهير الغفيرة التي خرجت تأييداً لطرد هذه القوات، وتناسى دماء الشهداء الذين سقطوا في المواجهات الدموية، ونسي جريمة اغتيال أبو اليمامة.
هذه المفارقة تطرح أسئلة عميقة حول طبيعة التحولات السياسية في الجنوب العربي. فمن ناحية، هناك شعب متحمس لاستعادة دولته، ومستعد للتضحية بكل ما يملك من أجل تحقيق هذا الحلم. ومن ناحية أخرى، هناك قيادة سياسية تتصرف وكأنها لا تدرك حجم اللحظة التاريخية، أو ربما تتعامل معها بمنطق مختلف.
الجنوب العربي اليوم يقف على مفترق طرق. فالشعب قدّم ما عليه، من تحرير للأرض، وتضحيات بالدماء، وخروج جماهيري حاشد. فيما الجغرافيا محررة، والإرادة واضحة، والمقومات متوفرة. لكن المعادلة السياسية لا تزال ناقصة، والاستقلال لا يزال حلماً ينتظر التحقيق.
بقاء الجنوب دون إعلان استقلال رغم توفر جميع الشروط يظل لغزاً محيرا، ويتحدى المنطق السياسي السليم. فالشعوب تنتصر بإرادتها، لكن الإرادة وحدها لا تكفي دون قيادة تواكب التطلعات، وتدرك حجم المسؤولية التاريخية، وتستشعر أهمية اللحظة الفارقة في مصير الأمم.