في وقتٍ تتسابق فيه المدن على بناء الفنادق والمولات ومحطات الغاز، وتنتشر المشاريع التجارية بشكلٍ كبير جدًا، يقف المتأمل أمام سؤالٍ مشروع:
أين هي المشاريع الصناعية والزراعية الحقيقية التي تبني اقتصاد البلد وتخلق فرص عمل للشباب؟
صرنا نعيش واقعًا غريبًا، فبينما العالم يتجه نحو تعزيز الإنتاج المحلي في الغذاء والدواء والكساء والصناعة، نُغرق نحن مدننا بالمولات التي تهتم بالمظهر وتنسى الجوهر.
محطات الغاز هي الأخرى أخذت نصيب الأسد من الاستثمار، ضررها أكثر من نفعها، فسيارات بلدنا معظمها تغيرت من بنزين إلى غاز، وماذا بعد؟
سيارات الغاز ومحطات الغاز خطرٌ محدق، خصوصًا المحطات التي تقع بالقرب من مرافق حكومية أو تجمعات سكنية. نسأل الله السلامة للجميع.
الجميع يتنافس على الآخر، محطات الغاز والمولات أصبحت موضة!
حين يتحول الاستثمار إلى مغامرة
في إحدى المناطق قرر أحد المستثمرين الطموحين إنشاء محطة غاز ضخمة، وقال للناس بكل ثقة:
مشروعي هذا سيوفر للناس خدمة راقية، وسأكسب خير الدنيا والآخرة.
لم تمر سوى أشهر حتى شبّ حريق هائل في المحطة بسبب تسرب بسيط، أودى بأرواح وأتلف ممتلكات، فتحول المشروع من حلمٍ جميل إلى كارثة مروعة.
وماذا تتوقع من شخصٍ مستهترٍ يعبئ الغاز للسيارة وهو مولع سيجارة؟
عاد، هل بقيت عقول معكم؟
هذه القصة ليست استثناءً، بل صورة مكررة لمشاريع تُبنى بلا دراسة، وتُدار بعشوائية، فتسقط وتحترق، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت!
ثروات تُهدر ومصانع غائبة
ما يؤلم أكثر هو أن بلادنا تمتلك ثروات طبيعية وزراعية وحيوانية ونحلية وسمكية هائلة، لكنها تُهدر كل يوم بلا استفادة حقيقية.
في بلادنا تُسلخ يوميًا مئات بل آلاف من المواشي، وتُرمى جلودها في العراء لتتحول إلى مصدر تلوث وروائح تزكم الأنوف.
هذه الجلود يمكن أن تكون مادة خامًا لصناعة وطنية مزدهرة في مجال الجلود والحقائب والأحذية.
أين نحن من أيام الزمن الجميل حينما كان لنا مصنع المنتجات الجلدية؟
وفي الوقت ذاته تُترك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية بُورًا تنتظر من يمدّ لها يد الشراكة والاستثمار.
فعلينا أن نعرف تمامًا أنه حين تتراجع الزراعة يتراجع الأمن الغذائي، وحين تنهض الأرض ينهض الإنسان معها.
وكم هو جميل لو جلس ملاك الأراضي والمستثمرون على طاولة واحدة، واتفقوا على صيغة عادلة للشراكة على مبدأ لا ضرر ولا ضرار، لتتحول تلك الأراضي المهجورة إلى مشاريع إنتاجية تعود بالنفع على الجميع.
ولا ننسى أن هناك آلاف الهكتارات القابلة للاستصلاح في بلادنا، لكنها بحاجة إلى رؤية اقتصادية وطنية تشجع الزراعة والإنتاج.
الثروة السمكية… فرصة ضائعة
بلادنا تطل على واحد من أغنى السواحل في المنطقة، ومع ذلك نصدر أجود أنواع الأسماك إلى الخارج لتُعلّب وتُغلف وتعود إلينا في علبٍ مستوردة نشتريها بأضعاف السعر!
يقول المثل الشعبي: يا موزّع المرق، أهل بيتك أحق!
فلماذا لا نعيد تشغيل مصانع الأسماك التي كانت تعمل في بلادنا؟
ولماذا لا نُحيي هذه الصناعات الوطنية التي يمكنها أن تُغرق السوق المحلي وتصدر الفائض للعالم؟
المزارع والمستثمر وجهًا لوجه
تخيلوا مشهدًا رمزيًا على خشبة مسرح هذا الوطن:
مزارع بسيط يحمل في يده حفنة من التراب، ينظر إليها بعين العاشق ويقول:
هذه أمي، أطعمها لتطعمني.
وبجانبه يقف مستثمر أنيق يحمل مفتاحًا ذهبيًا، ينظر إليه بثقة ويقول:
وهذا مالي لا أسلمه إلا لأيادٍ أمينة تعرف قيمة العمل
يتقدمان نحو بعض، يضع المزارع التراب على الأرض، ويغرس المستثمر المفتاح فيه، فتنبثق شجرة مثمرة تحمل ثمارًا.
هذا المشهد التشبيهي يُلخّص معادلة النجاح التي نحتاجها اليوم:
المال بلا عمل كالساق بلا قدم، والعمل بلا دعم كالسفينة بلا شراع.
أما حين يلتقيان، تولد الحياة ويُبنى الوطن.
رسالتي للمستثمر ومالك الأرض والسلطات المحلية ووزارتي الزراعة والصناعة:
الالتفات الجاد نحو دعم المشاريع الإنتاجية التي تُسهم في تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي.
بلادنا بحاجة إلى سياسات تحفيزية وتشريعات مرنة تضمن حماية المستثمر المحلي، وتشجع على إقامة المصانع الزراعية والغذائية، وتوفر البنية التحتية الأساسية من طاقة ومياه وطرق.
فالاستثمار في الزراعة والصناعة ضرورة وطنية لإنقاذ الاقتصاد، وخلق فرص عمل للشباب، واستعادة مكانة اليمن كبلدٍ منتجٍ وغنيٍّ بخيراته.
أخيرًا أقول:
ليس العيب في قلة المال، بل في غياب الرؤية.
نحتاج إلى من يعيد ترتيب أولويات الاستثمار،
من يضع الزراعة والصناعة في الصدارة، ويدرك أن الأمن الغذائي والصناعي هو أساس الاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية.
فلنقلها بوضوح:
زنجبيل بترابه، واللي ما يباه يرده لأصحابه —
أي أن خيرات الوطن أولى بأبنائه، ومن لم يقدّرها فليتركها لمن يصونها وينميها.
كلمة أخيرة للمزارع:
الأرض لا تخون من أحبها، ومن زرع بإخلاص سيحصد خيرًا وفيرًا.
ازرع لتأكل، وازرع ليأكل غيرك، فالرزق بيد الله، لكنه لا يأتي إلا لمن عمل وسعى.
/عبدالقادر السميطي
دلتا أبين