في كل بلدان العالم، تُبنى الأمم على أساس الزراعة المنظمة والخطط الزراعية الدقيقة والمُزمنة التي تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي. فالأمن لا يتحقق بالبندقية فقط، بل بالمحراث والبذرة والساقية التي تروي الأرض وتمنح الخير.
اليوم، ونحن في وطنٍ يعاني من ضغوط اقتصادية ومعيشية متصاعدة، أصبحت زراعة الحبوب مسؤولية وطنية وأخلاقية قبل أن تكون نشاطًا اقتصاديًا. فمحاصيل مثل القمح والذرة والدخن والشعير ليست مجرد نباتات تُزرع وتُحصد، بل هي أعمدة الأمن الغذائي التي تحفظ كرامة الشعوب وتقلل اعتمادها على الاستيراد الخارجي.
وللأسف، نسمع بين الحين والآخر من يقول إن زراعة الحبوب غير مجدية بسبب انخفاض الأسعار أو ضعف الدعم. ولكن أين روح الوطنية؟ أين إحساس الانتماء للأرض؟
يا مزارعنا العزيز،
إنك تقاتل في أعظم جبهة،
وهي جبهة التنمية الزراعية، جبهة إنتاج الغذاء الذي يُبقي هذا الشعب على قيد الحياة. فزراعتك للحبوب ليست تجارة فحسب، بل دفاع عن وطنك في وجه الجوع والتبعية.
فلسفة “قع نملة تاكل سكر”
في الموروث اليمني، يُقال: قع نملة تاكل سكر. وهي عبارة بسيطة من أربع كلمات، لكنها تختصر فلسفة الحياة كلها: العمل بصمت، والاجتهاد في تنظيم الوقت، والسعي الدؤوب بلا يأس.
النملة لا تملك مالًا ولا صوتًا، لكنها تملك الإرادة. تحمل ما يفوق حجمها مراتٍ ومرات، تسقط ثم تنهض، وتخزن غذاءها للمستقبل. ولو تأملنا سلوكها لوجدنا فيه دروسًا لكل مزارع ولكل إنسان يريد النجاح.
عزيزي القارئ،
خليك معي واسمع هذه الحكايات.
الحكاية رقم (1):
يُحكى أن رجلًا كان يراقب نملةً تحمل حبة سكر أكبر من حجمها. تتعثر وتسقط، ثم تعود وتحملها من جديد. فقال ساخرًا:
يا لهذه النملة العنيدة! يا لهذه النملة المجنونة!
ابتسمت النملة وقالت في سرّها: لو كان البشر يعملون كما نعمل، لما قال أحدهم "ماشي رزق" أو "ماشي عيشة" أو "ماشي عمل"، وهو جالس مدكّي ومخزّن من السابعة مساءً حتى السادسة صباحًا، ثم ينام طول اليوم! وهذا هو روتين الكثير من الناس!
الحكاية رقم (2):
وهذه حكاية واقعية من الميدان، من أرض المزارع (س).
ذات يوم، كنتُ في إحدى مزارع حوض دلتا أبين أراقب أحد المزارعين البسطاء في مزرعته الصغيرة. كان يحفر الأرض بيديه رغم حرارة الشمس، فقلت له مازحًا:
ليش ما تزرع خضار أو فواكه؟ أسهل وتجيب ربحًا أكثر!
ابتسم وقال: يا ولدي، الخضار تملأ السوق يومًا واحدًا،
لكن القمح يملأ البطون عامًا كاملًا.
كلماته كانت درسًا عميقًا في الوعي الزراعي والوطني. فالرجل البسيط أدرك أن الزراعة ليست مجرد ربح، بل رسالة للأجيال القادمة.
إذن، ينبغي أن تكون زراعة الحبوب إلزامية وواجبًا شرعيًا وجهادًا فرض عين على كل مزارع يمتلك شبرًا من الأرض، من أجل الحفاظ على حياتنا.
---
رسالة من القلب إلى القلب
نوجّه نداءً صادقًا إلى الجهات الرسمية والمنظمات والمؤسسات الزراعية والقطاع الخاص:
ادعموا المزارع المنتج، وشجعوه من خلال الحوافز المادية.
وفّروا له البذور المحسّنة، والآلات، والحصادات، ومستلزمات الزراعة الأخرى، والتسهيلات التمويلية، والتسويق المنظم.
ضعوا سياساتٍ تشجع زراعة الحبوب وتضمن للمزارع سعرًا عادلًا.
فمن دون هذا الدعم، لن نحقق اكتفاءنا الذاتي، وسنظل نستورد لقمة عيشنا من الخارج ونعتمد على ما تقدمه بعض المنظمات الإغاثية.
العمل بصمتٍ خير من الشكوى بصوتٍ عالٍ.
النملة تعمل دون أن تشتكي، ومع ذلك تأكل السكر في النهاية.
وهكذا المزارع الصادق، يعمل بصمت تحت الشمس، لكنه في النهاية يقطف ثمار جهده ويطعم وطنه من عرق جبينه.
كما أن النملة لا تترك يومها يضيع بلا عمل، اجعل كل يومٍ في مزرعتك خطوة نحو الإنتاج.
خطط، راقب، نظّم، واستثمر وقتك بحكمة.
فالمزارع المجتهد هو أول من يتذوق حلاوة العسل، وأول من يقطف ثمار الأمن الغذائي.
عبدالقادر السميطي
دلتا أبين – 2 نوفمبر 2025م