آخر تحديث :الجمعة-31 أكتوبر 2025-10:33م
أخبار وتقارير


التربية والتعليم.. إلى أين؟

التربية والتعليم.. إلى أين؟
الثلاثاء - 28 أكتوبر 2025 - 12:27 ص بتوقيت عدن
- أبين تايم/خاص

كتب/د.عيدروس نصر


تشير تقييمات المنظمات الدولية، ومنها منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم) والإسكوا (منظمة الأمم المتحدة لغرب آسيا) إلى أن التعليم في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي) كان يمثل نموذجًا متقدمًا بالمقارنة مع الكثير من البلدان المسماة حينها بـ"النامية"، ومنها البلدان العربية المجاورة.

وفي بعض تقاريرها تشير منظمة (الإسكوا) إلى أن اليمن الديمقراطية هي أول دولة عربية تراجعت فيها نسبة الأمية إلى 2% من مجموع السكان.


وتشير المعطيات إلى أن الشهادات التعليمية الصادرة من الجمهورية كانت تُقبل دونما حاجة إلى التدقيق أو إجراء أية اختبارات لحامليها المتقدمين للعمل في معظم البلدان العربية، بما في ذلك البلدان التي لم تكن على وفاق سياسي مع النظام الحاكم حينها في البلاد.


ليس في الأمر مبالغات أو ادعاءات أو مباهاة أو بكاء على اللبن المسكوب، لكنها حقيقة تاريخية ينبغي التعلم منها لمن شاء أن يتعلم، صديقًا كان أم خصمًا لنظام الحكم في اليمن الديمقراطية حينها.

واليوم يتساءل تلاميذ ومعلمو تلك المرحلة: أين كنا؟ وكيف صرنا؟ وما الأسباب؟



تقوم العملية التعليمية والتربوية على عدد من المقومات، أهمها ثلاثة، هي: المعلم، والتلميذ، والمادة التعليمية ووسائلها. ويتحدث البعض عن البيئة التعليمية، وهاتان الأخيرتان يمكن جمعهما تحت مسمى واحد، فالمادة التعليمية ترتبط بالكتاب المدرسي والمبنى المدرسي والوسائل المرافقة، بدءًا بالطبشورة والقلم ولوحة الكتابة، وانتهاءً بالمختبر والمادة الكيميائية أو الفيزيائية أو النباتية وغيرها من وسائل الإيضاح.

وبغياب أحد هذه المكونات أو ضعفه، تفتقد العملية التعليمية فاعليتها، وقد تكون المحصلة قريبة من الصفر إن لم تكن صفرًا.




العمل في الميدان التربوي والتعليمي عملٌ نبيلٌ في مهنةٍ ساميةٍ، عملٌ لا يقوم به إلا إنسان يتميز بالقدرة والكفاءة والمهارة والسمو الأخلاقي والضمير الإنساني، ولذلك قال الشاعر العربي:


قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا




لأن العامل فيها يستهدف، من بين ما يستهدف، توطين المعرفة، وتأصيل القيم، وتكوين المهارات، وغير ذلك. ومن أجل أن ينجح في هذه الرسالة، أو الرسائل النبيلة والرفيعة القيمة، يجب أن يكون قد امتلك هذه المقومات قبل أن ينقلها إلى الآخرين.


كانت مهنة المعلم، إلى وقت ليس ببعيد جدًا – وأقصد ما قبل 1990م – تحظى بتقديرٍ واحترامٍ يقتربان من درجة التقديس. وشخصيًا ما زلت حتى اللحظة أتذكر معلميَّ الأوائل وأشعر بالرهبة والإجلال لمقاماتهم ومكانتهم المميزة في حياتي، وحينما أقابل أحدهم أشعر بأنني أمام كائنٍ مختلف عن سائر الناس الذين أتعامل معهم، نظرًا للأثر المترسّب في قاع ذاكرتي مما تلقيته منهم من معارف وسلوك وخبرات.


رغم العمر الذي عشته، ورغم عدد من مرّوا أمامي من تلاميذ أصبح منهم العالم والطبيب والمهندس والأستاذ الأكاديمي والوزير والقائد العسكري والأمني والحقوقي، أقول هذا لأن بعض هؤلاء المعلمين قد خلق عندي صورة المثل الأعلى الذي جعلني أتطلع إلى اليوم الذي أغدو فيه عند مستواه وأمتلك سجاياه المعرفية والأخلاقية.


وبمرور السنوات واختلاط المعايير والأولويات أمام القائمين على شؤون البلاد، وتسنّم مراكز القيادة من قبل أناس يفتقرون إلى التقدير الكافي لأهمية العلم والمعرفة والكفاءة والقيم الأخلاقية والعلاقات الإنسانية؛ لم يعد المعلم ينال حقه في التقدير والاحترام والمكافأة المادية والمعنوية التي تتناسب مع أهمية وخطورة مكانته في بناء الحياة المفترض أنها جديدة.


وهو ما جعل الكثيرين يهربون من العمل في مجال التربية والتعليم، ويبحثون عن مهن أخرى أكثر دخلًا، حتى لو كانت أدنى مقامًا وأقل مكانةً واحترامًا.

فالمعلم لم يعد يحظى لا بالتقدير المجتمعي ولا بالمكافأة المادية الرسمية (أقصد الدخل الشهري الذي يسد حاجته ويميزه عمن سواه)، وبالتالي تحولت مهنة المربي والمعلم إلى مهنة طاردة، وأصبح ميدان التربية والتعليم ساحة للعبث والخراب والإهمال.

وشخصيًا أعتبر هذا سياسة رسمية ممنهجة ومتعمدة من قبل الحكام الذين أرادوا أن يضربوا المجتمع الجنوبي في مقتل، وقد فعلوا.




في دولة مثل اليابان، يحصل المعلم على راتب أعلى من راتب الوزير والمدير والقائد العسكري وعضو البرلمان، وفوق هذا يحصل على مزايا اجتماعية لا يحصل عليها أحد من كل هؤلاء.

فلديه مثلًا بطاقةٌ تموينية بأسعار تشجيعية مخفَّضة، وبطاقة مجانية لصعود الحافلات والقطارات مدفوعة الثمن من قبل الدولة، وحينما يصعد الحافلة أو القطار يقوم له جميع الركاب ليجلس مكان أحدهم.

ولديه بطاقة تعريف يعلّقها على صدره تختلف في شكلها ولونها عن بطاقات بقية الموظفين والعاملين، وبها يعرفه الناس فيقدّرونه التقدير المميز الذي لا تحظى به بقية الفئات الوظيفية، بما في ذلك علية القوم.


هذا المعلم لا يسأل في أكتوبر متى سيأتي راتب شهر أبريل، لأن راتبه يذهب إلى حسابه البنكي في الثلاثين من كل شهر، فلا مدير التربية ولا مدير المدرسة ولا الصرّاف يستقطع منه جزءًا ليعود مكسور النفس فاقد الثقة بكل من حوله.

ولذلك لا يضطر إلى العمل خارج الدوام كعامل خلطات، أو بائع قات، أو منادٍ على الحافلة، أو حمّالٍ في الميناء، أو أمام أحد محلات البيع بالجملة.


فمتى سيتحرر معلمونا من سيل الإهانات التي يتعرضون لها على أيدي ولاة أمر البلاد؟

ومتى يدرك ولاة الأمر هؤلاء أنهم لولا المعلم ما وصلوا إلى ما هم فيه من مكانة، وما يحظون به من عزٍّ وثراءٍ مشروعٍ نادر، وغير مشروعٍ في أغلب الأحيان؟