إنّ الاستقلال الوطني للجنوب، الذي تحلّ ذكراه الـ“٥٨” الغالية على شعبنا، لم يكن يومًا سجّله التاريخ بأحرف من ذهب فحسب، بل كان أيضًا عنوانًا لمنجزات تحققت في ظل دولته، دولة الجبهة القومية وعهد رئاسة الشهيد سالمين. وعلى ما قد يكون قد رافقها من أخطاء ناتجة عن الممارسة، ينبغي أن يُنظر إليها ضمن تجربة وظروف ومتطلبات يومها، فيما يصف الناس الماضي اليوم بـ"الزمن الجميل".
فعلى الصعيد الوطني، تم توحيد أكثر من ٢٣ سلطنة وإمارة ومشيخة والجزر وعدن عاصمة الجنوب التاريخية، في كيانٍ واحد موحّد من المهرة إلى باب المندب (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية). لم يكن للفساد والعبث بالمال العام مكان، بل لم يكن أحد يفكّر فيه، لعلمه أنّ اليد التي ستمتد إلى المال العام ـ أياً كان صاحبها ـ سيتم قطعها.
وعلى الصعيد العسكري والأمني، جرى تأسيس جيش وطني بفروعه الثلاثة: البرية والبحرية والجوية، بكامل الجهوزية الدفاعية والقتالية، تسليحًا وعدة وعتادًا وتدريبًا وتأهيلًا، وبعقيدة وطنية الولاء فيها لله ثم للوطن، للدفاع عن الوطن وحياضه وسيادته. وقد لُقّن كل من أراد التطاول عليه دروسًا لن ينساها في الفداء والتضحية، وكان مشهودًا له كثالث جيش بين جيوش بلدان الشرق الأوسط، مسنودًا بقوات وميليشيا شعبية أيضًا.
كما تم توفير الأمن والأمان والسكينة العامة للمواطنين، وكشف الجريمة قبل وقوعها، والحفاظ على الملكية العامة والخاصة، من خلال تأسيس أمنٍ مهني مؤهّل ومقتدر، مسنود بلجان دفاع شعبي، كان جزء من مهامها أمنية واجتماعية، مرتبطة بحل النزاعات والقضايا الأسرية التي يؤدي استفحالها إلى ارتكاب الجريمة.
وكان المواطن ينام على قارعة الطريق ويترك سيارته مفتوحة، ويصحو وهي كما تركها، وإذا نسي التاجر متجره مفتوحًا، يصحو الصباح ومتجره كما تركه، وعلى ذلك قِس.
وعلى الصعيد التمويني، كانت الدولة ومن خلال شركة التجارة الخارجية مسيطرة على استيراد السلع وتموين السوق عبر شركة التجارة الداخلية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أُنشئت شبكة تعاونيات استهلاكية في المديريات وأماكن بيع التجزئة، مع تسهيلات مالية من الدولة، وتموينها بواسطة سيارات نقل توصل البضائع إلى مناطق الطلب، وتتحمل الدولة تكاليف ذلك، وبيعها بأسعار موحدة وثابتة في المدينة والريف، من خلال صندوق موازنة الأسعار لتغطية التقلبات العالمية وتكاليف الشحن البحري.
كما وُجدت مؤسسات لتموين السوق بالخضار والفواكه والأسماك واللحوم بأسعار زهيدة.
وعلى الصعيد الصحي، أُنشئت شبكة من المستشفيات في المدينة مزوّدة بالمختبرات والأشعة والدواء والأسِرّة والرقود والغذاء، وما على المواطن إلا إحضار مريضه فقط. وكذلك مراكز صحية في المديريات ووحدات صحية في المناطق.
وعلى الصعيد التربوي، فُرض التعليم الإلزامي، ومحو أمية الكبار، ورياض الأطفال التي كانت تقدم للتلاميذ فطورًا من سندويتش بالجبن والبيض والحليب. وفي الأرياف توفرت سيارات أجرة على حساب الدولة لنقل الطلاب يوميًا من قراهم إلى المدارس والعكس، وفي المدينة لطلاب الثانويات والمعاهد والمعلمين والجامعة من المديريات، حيث وُفرت لهم أقسام داخلية للغذاء والمأوى، فيما كانت الوظيفة العامة متاحة لهم فور التخرج مباشرة.
وفي الجانب الاجتماعي، جرى توطين البدو الرحل والتخلص من العقلية القروية والمناطقية والتعصب القبلي وظاهرة الثأر، وقد تأسست تلك الإدارات بإشراف الرئيس سالمين وبدار الرئاسة، لاستيعاب أبنائهم وتوفير الغذاء والإيواء والملبس والتعليم لهم، واستيعابهم في الثانويات والكليات، وابتعاث المبرزين منهم للدراسة الخارجية على نفقة الدولة. وساهم ذلك في خلق تعايش اجتماعي بعد أن أصبح الأبناء كالإخوة في المدرسة والجامعة، وتشكل جيل بعقلية مدنية. وكان الابتعاث مقتصرًا على المبرزين أيّاً كانوا، فتخرج منهم الطيارون والأطباء والمهندسون من أبناء الفئات الضعيفة، بلا تمييز، فالمعيار هو التفوق.
وعلى الصعيد الزراعي، أُنشئت شبكة مزارع دولة نباتية وحيوانية ودواجن وبيطرة، وشبكة تعاونيات زراعية، وبُنيت السدود وقنوات الري والمنشآت السمكية والطرقات والجسور.
وعلى الصعيد الصناعي، أُنشئت شبكة مصانع: مصنع الغزل والنسيج، مصانع تعليب الأسماك في شقرة وحضرموت، مصنع الطماطم، مصنع الغلال، مصنع الألبان، والورش، وغيرها.
وعلى صعيد السيادة الوطنية والقرار المستقل، أُغلق مضيق باب المندب أمام حركة السفن التي تحمل الدعم ـ وفي مقدمته العسكري ـ للكيان الصهيوني خلال حرب أكتوبر 1973م تضامنًا مع شعب مصر الشقيق (عنوانًا للسيادة).
وببركات “وحدة مايو 1990م” ونفحات قوى حرب عام 1994م وما تناسل عنها من ثقافة نرجسية وشرعنة الفساد، صار كل ذلك أثرًا بعد عين.
ولكل ما سبق، فإن ذكرى الاستقلال ليست مناسبة للاحتفالات ـ على أهميتها في تحفيز الذاكرة الوطنية ـ لكنها أيضًا مناسبة لتشمير السواعد لاستعادة منجزات ومكاسب الاستقلال ودولته ومؤسساتها، والبناء عليها، وإخراج شعب الجنوب من كارثة المجاعة وتردي الخدمات، وتوفير متطلبات الحياة والعيش الكريم، واستعادة القرار الوطني المستقل، كخطوة أولى وعاجلة على طريق استعادة الدولة الجنوبية كاملة الحرية والسيادة والاستقلال على حدود ما قبل مايو 1990م.