تصاعد الحديث خلال الأيام الأخيرة عن موضوع "حل الدولتين" في اليمن، ليتخذ منحىً متعارضًا ومتصادمًا؛ منحىً يرى أن من لا يقر بحل الدولتين يسلب حقًا من حقوق الجنوبيين، مقّرًا ومحسومًا ومتفقًا عليه بشكل نهائي بين أطراف الصراع في اليمن، ومنحىً آخر يشيطن كل من يتحدث عن القضية ويعتبر من يقول بحل الدولتين أنه يرتكب واحدةً من الكبائر التي لا تقل عقوبتها عن المأوى إلى جهنم وبئس المصير.
وقد استغل القائمون على إعلام اسطنبول ومن على شاكلته الحديث الذي أدلى به وزير خارجية الجمهورية اليمنية الدكتور شائع محسن عن عدم طرح موضوع حل الدولتين على الطاولة، واعتبروه ضربةً قاصمةً لما يسمونه بـ"مشروع الانفصال وتمزيق اليمن". ولو لم يكن من أدلى بهذا الحديث وزيرًا محترمًا وذا خلفية سياسية ووطنية جنوبية كالدكتور شائع، لما أولوا القضية أي اهتمام، لكنها سياسة دق الأسافين التي دأب عليها إعلام صنعاء وتفريخاته المختلفة الممتدة إلى أزمنة محمد خميس وبقية تلاميذ مدرسته.
ولمناقشة هذه القضية، يمكن التعرض للحقائق الأساسية التالية:
1. إن الحديث عن العودة إلى وضع الدولتين اليمنيتين المتجاورتين والمتعاونتين والمتعايشتين ليس جديدًا ولم يُطرح للمرة الأولى، بل هو موضوع نقاش وتداول منذ نهاية الحرب الإجرامية الأولى على الجنوب عام 1994م. وهو لا يمثل بدعةً سياسية ولا جريمةً أخلاقية أو دينية أو جنائية أو حتى سياسية، بل هو موقف سياسي يجب النظر إليه بواقعية وبتبصر واحترام، مثل أي موقف أو رؤية سياسية كالدعوة إلى الدولة الفيدرالية أو الكونفدرالية.
2. على المتعنتين والمتنطعين أن يتذكروا أن اليمن، بمعناها الجغرافي، كانت دولتين متجاورتين، عاشتا فترات من الجوار والتعايش والتعاون والشراكات بمستويات مختلفة، رغم مؤثرات زمن القطبين وظروف الحرب الباردة والتدخلات الخارجية. وكان يمكن للدولتين الشقيقتين أن تستمرا في التعايش والتعاون والتكامل على نحو أفضل بعد نهاية الحرب الباردة وزوال الاستقطاب الدولي المتصل بتلك الحرب، لولا كارثة "الوحدة" الاندماجية العشوائية المرتجلة، التي دفع الشعب الجنوبي ضريبتها باهظةً من أرواح ودماء أبنائه، ومن سنوات أعمارهم، ومن ثرواته ومستقبل أجياله، وما يزالون يعانون منه من العذابات والآلام حتى يوم الناس هذا.
3. لقد فشلت فكرة تجربة الدولة الواحدة "دولة الوحدة اليمنية" في عامها الأول، وتكرس الفشل النهائي بالحرب العدوانية على الجنوب، والتي حولت "المشروع الوحدوي" من فكرة وطنية نبيلة بمضامين ديمقراطية ونهضوية وتنموية حداثية إلى مشروع احتلال واستباحة وإقصاء وإلغاء للشعب الجنوبي ونخبته السياسية من المشهد السياسي العام، وحرمانه من أبسط حقوقه في الحرية والعيش الكريم.
4. إن صيرورة الأحداث أكدت فشل "الوحدة اليمنية" وأيلولتها إلى حالة الدولتين، وكان كاتب هذه السطور قد أكد مرارًا وفي أكثر من مناسبة على حقيقة لا يرغب المتنطعون وأدعياء "الوحدوية الزائفة" في الاستماع إليها، وهي أننا نعيش وضع الدولتين على الأرض كحقيقة واقعة لا ينكرها إلا المكابرون أو عديمو البصر والبصيرة. فهناك (دولة) في الشمال يديرها الشماليون بطريقتهم، وهناك (دولة) في الجنوب يديرها الشماليون أيضًا، مع مشاركة جنوبية شكلية لم تسفر عن أية نتائج تخدم الجنوبيين، وترفع عنهم المعاناة الممتدة منذ العام 1994م، والآخذة في التصاعد والاتساع إلى درجة قد تؤدي إلى انفجار البركان في وجه الجميع. وهذا الوضع قد يبقى لفترة من الزمن، لكن مصيره الزوال الحتمي، لأنه مخالف لمنطق العقل والسياسة والمسؤولية الوطنية والأخلاقية والإنسانية. إذ كيف يمكن القبول بإلغاء شعب بكامل نخبه السياسية وإلحاقه بحكام من خارج أرضه وبيئته الوطنية والاجتماعية، وفوق هذا ممن تلطخت أيديهم بدماء الجنوبيين منذ غزوة 1994م حتى جريمة 2015م، ويستمرون في قتل الجنوبيين حتى اليوم، لكن هذه المرة بسياسات التجويع والتعذيب والحرمان والترهيب ومحاولات التركيع.
5. إن العودة إلى وضع الدولتين ليست فقط مصلحة جنوبية، بل مصلحة للشعبين في الجنوب والشمال، ومصلحة إقليمية ودولية، فوجود دولتين مستقرتين متعاونتين ومتكاملتين أفضل بألف مرة من دولة واحدة تعيش الانقسامات والحروب والنزاعات الثنائية البينية، التي لن تؤدي إلا إلى نفس النتيجة وهي العودة إلى وضع الدولتين وربما أكثر من ذلك، ولكن بعد دماء ودمار وبغضاء وتفكك وعداء تاريخي لن تمحوه السنون والعقود.
وأخيرًا:
هذه رسالة إلى أبناء الجنوب وقواهم السياسية ونخبهم الثقافية والأكاديمية والحقوقية والعسكرية والأمنية: إن الدولة الجنوبية لن تُصنع بالبيانات ولا تلغيها التصريحات أو اللقاءات الصحفية، بل الطريق إليها يأتي من خلال فلسفة سياسية منهاجية وطنية تقوم على وحدة الصف الجنوبي واستيعاب كل ألوان الطيف السياسي الجنوبي المؤمن بحق الشعب في استعادة الدولة، وتكون هذه الفلسفة قائمة على الإرادة والحكمة والبصيرة والمهارة السياسية والدبلوماسية والقانونية، والقدرة على إقناع الفرقاء خصومًا أو أصدقاء بوجاهة حل الدولتين وحتمية الوصول إليه، مع تقدير الأرواح والدماء التي سالت على محراب الحرية والكرامة الجنوبيتين، وليس بالتمنيات والخطابات والبيانات والمناظرات الإعلامية.