قبل الدخول في موضوع حديثنا اليوم لا بد من الإشارة إلى حقيقيين يعلمهما كل المواطنين في الشمال والجنوب، وهاتان الحقيقتان تتمثلان في:
1. إن القوى السياسية اليمنية بكل أجنحتها وتلويناتها السياسية والفكرية قد حرصت على إقامة علاقات ودِّية مع الجماعة الحوثية منذ نشأتها الأولى، . . وحتى اللحظة يتساءل المواطنون اليمنيون ومعهم الكثير من المثقفين والباحثين والسياسيين، لماذا دارت حروب صعدة الست حينما كان الجميع يحرص على استرضاء الجماعة الحوثية (رغم ادعاء البعض محاربتها) وأنصع مثال على ذلك التحالف المعلن الذي عقده حزب الرئيس صالح مع الحوثيين لتنفيذ الانقلاب على الرئيس هادي وحكومتيه التوافقيتين (حكومة الاستاذ با سندوة وحكومة الاستاذ خالد بحاح)، ثم ما أدلت به قيادة حزب الإصلاح عن استعدادها للعمل مع الحوثيين تحت أي برنامج وبأي شعار تقرره الجماعة نفسها، وتجسيد ذلك في الزيارة التاريخية لقيادة حزب الإصلاح في العام ٢٠١٢م إلى صعدة ومقابلة عبد الملك الحوثي في كهفه، وما اتفاق السلم والشراكة إلَّا تلخيص مكثف لحرص جميع القوى اليمنية على تمكين الجماعة الحوثية من الاستحواذ على السلطة وتنفيذ انقلابها الشهير في 21 سبتمبر 2014م، فما جدوى الحروب، وما كلفته من خسائر بشرية ودمار مادي واجتماعي ومآسي إنسانية؟
2. لقد تفرجت كل القوى السياسية اليمنية على جماعة الحوثي ومسلحيها وهم يجتاحون المدن والمحافظات والمديريات الشمالية، دونما طلقة رصاصة واحدة من أية قوة باستثناء المعركة مع اللواء القشيبي في عمران بقرار الحوثيين أنفسهم وليس بقرار القشيبي وبعض المواجهات التي شهدتها منطقة وادي ظهر ومنطقة التلفيزيون شمال صنعاء ومعظم تلك المواجهات كانت عبر جماعات قبلية من الأهالي، في حين جرى تحييد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بينما قاتلت بعض تلك القوات (وعلى رأسها الحرس الجمهوري) بجانب الحوثيين.
وهكذا فقد تفرج الجميع الحوثيين وهم يسقطون مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى والمحافظات الشمالية واحدةً بعد الأخرى وجرى تحميل الرئيس هادي ووزير دفاعه اللواء محمد ناصر مسؤولية سقوط صنعاء وبقية المحافظات، برغم علم الجميع أن الرجلين لم تكن لهما أية سلطة حتى على حراستهما الشخصية.
وكما نلاحظ فإن الشرعيين الذين تذكروا بعد سقوط صنعاء وكل محافظات الشمال بيد القوات الحوثية، تذكروا بأنهم شرعيون، أعلنوا مقاومة الانقلاب الحوثي، ولكن ليس بالمعركة المسلحة استعداداً للمعركة الفاصلة لاستعادة الدولة والعاصمة؛ بل من خلال الالتحاق بالرئيس هادي إلى الرياض طمعاً في غنائم النزوح وما ترتب عليه من عوائد مجزية
إن جماعة الشرعية يخوضون المعركة على جبهتين، جبهة معلنة لكنها معطلة، وجبهة غير معلنة لكنها هي المفعلة والناشطة، بوجوهها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.
أما المعركة المعلنة، فهي المعركة مع الجماعة الحوثية، لكن وكما يعلم الجميع فإن هذه المعركة هي معركة إعلامية ولفظية، ليس فقط في السنوات الأخيرة، بعد إعلان ما سمي بالهدنة، التي سبقت عقد مشاورات الرياض، بل ومنذ إعلان عاصفة الحزم، فقد كانت الحملة الإعلامية ضد الحوثيين والانقلابيين جميعاً في ذروتها، وكان الشرعيون يتسلمون المخصصات من الأموال والأسلحة والذخيرة، ثم لا يلبثون أن يسلموا مديرية أو مديريتين للجماعة الحوثية، أما بعد العام 2017، وبالذات خلال العامين 2018، 2019م فقد جرى تسليم أربع محافظات كاملة للجماعة الحوثية في أقل من شهرين، منها محافظة ريف صنعاء، بمديرياتها الشرقية وعلى رأسها مديرية نهم، وفرضتها الشهيرة، ومن يومها لم نعد نسمع عن طلقة رصاص واحدة يطلقها جيش الشرعية الجرار البالغ عدد جنوده وضباطه ما فوق الستمائة ألف، كما يقول المطلعون على الإحصائيات العسكرية، لكن عدد الذين "يلوون في الشوارع" لم يعد فقط 70% من قوام هذا الجيش، كما صرح ذات مرة وزير الدفاع السابق، بل لقد ازداد الرقم إلى 100%.
أما المعركة الحقيقية، غير المعلنة، لكن الشرعية تمارسها بأبشع صورها وأوسع نطاقاتها، فهي المعركة مع الجنوب الجنوبيين وعليهم، وهذه المعركة يُسَخِّر لها الشرعيون مختلف الوسائل والأدوات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والمعيشية والإعلامية والأمنية والعسكرية، وقبلها وبعدها السياسية.
ولم تقتصر هذه الحرب على الحصار الاقتصادي وتعطيل كل الموارد والأوعية المالية والنقدية وتسخير ما يفَعَّل منها لرعاية الفساد وتنميته، وكذا تعطيل وسائل الخدمات والحصار السياسي ومواصلة الحرب الإعلامية بل لقد وصلت في مرحلة من المراحل إلى المواجهة المسلحة مع الجنوبيين ومؤسساتهم الأمنية حديثة النشأة محدودة الخبرة والقدرات، ولمن نسي عليه أن يتذكر "غزوة خيبر" الشهيرة بنهاية العام 2018م وطوال العام 2019م، التي نفذتها القوات (الشرعية) بعد تسليمها محافظات الجوف والبيضاء ومأرب وشرق صنعاء للجماعة الحوثية، أما حرب الخدمات وسياسة التجويع والحروب الاقتصادية والاجتماعية فهي ما تزال متواصلةً حتى يوم الناس هذا.
* * *
تَمَخَّضَ اجتماع مجلس القيادة الرئاسي (في المهجر) الذي قيل أنه عقد برعاية سعادة السفير السعودي محمد آل جابر، تَمَخَّضَ عن قرار بتشكيل لجنة قانونية لدراسة مدى قانونية القرارات الصادرة مؤخراً عن الأخ اللواء عيدروس بن قاسم الزبيدي، نائب رئيس المجلس (هكذا ورد في المواقع الأخبارية الرسمية) وكان البعض قد أضاف إلى الخبر قرارات رئيس المجلس الدكتور رشاد العليمي، التي يقول البعض أن عددها يقارب الألف، والتي اتخذت خارج نطاق مجلس الرئاسة وبدون علم أعضائه، وهي في العموم لا تتعلق بمحافظات صنعاء وعمران وذمار وحجة والمحويت وصعدة وغيرها من محافظات ومديريات الشمال، ولا حتى بالمخا ومأرب وتعز التي بها مديريات محررة، بل كلها تتعلق بمحافظات الجنوب التي يحل رشاد العليمي وزملائه ضيوفاً على أهلها بعد أن انحازت حاضنتهم الاجتماعية إلى الجماعة الحوثية، فجاؤوا يستعيرون حاضنة اجتماعية من الجنوب، الذي ما انفكوا يحاربونه منذ غزوة 1994م،
ومع ما أبديته من ملاحظات على القرارات التي اتخذها الأخ اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، والتي كنت قد تناولتها في أكثر من منشور على صفحتي هذه، وعبر وسائل أخرى، أقول رغم هذا فإنني أنصح الأخ اللواء عيدروس الزبيدي أن لا يقبل بأية مراجعة أو تراجع عن القرارات التي اتخذها، وأن عليه أن يتمسك بها بصوابها وخطأها، وأية مراجعة لاحقة يجب أن تتم في إدار تسويات سياسية وإصلاح إداري ومالي في ما يخص الأحوال في الجنوب، باعتبار القرارات المقصودة هي قرارات تخص محافظات ومؤسسات جنوبية ولا تمس أية محافظة أو مؤسسة في أي محافظة من محافظات الشمال.
* * *
إن الصراع داخل مجلس الرئاسة لن يحل بمراجعة هذه القرارات أو تلك أو بتشكيل هذه اللجنة أو تلك، لأن جذور الصراع لا تنطلق من تلك القرارات وخلفياتها ونتائجها، لكنها تنطلق من وجود مشروعين متناقضين ومتصارعين داخل مجلس القيادة الرئاسي، والمشروعان يتعلقان بالجنوب وليس بأي مدينة أو محافظة أو حتى مديرية شمالية، والمشروعان هما:
1. المشروع الجنوبي والمتمثل في تطلع الشعب الجنوبي نحو ممارسة حقه في اختيار طريقه المستقبلي الحر والمستقل من خلال استعادة دولته وبناء مستقبل أجياله بعيداً عن أيى وصاية أو تبعية أو إملاء من أحد.
2. ومشروع الإبقاء على الجنوب وأهله ومستقبل أبنائه ملحقاً بالمملكة الحوثية اليمنية القائمة على أنقاض الجمهورية العربية اليمينة (السابقة) التي تخلت عنها نخبها السياسية وجاءت تبحث لنفسها عن وطنٍ بديل في الجنوب على حساب مستقبل ومصير أبنائه وتطلعاتهم المشروعة.
إن البحث عن أي حل للصراع داخل مجلس القيادة الرئاسي وجميع مؤسسات الشرعية خارج نطاق هذا المنظور الواقعي للصراع بين المشروعين المشار إليهما، إنما يمثل نوعاً من العبث واللهو غير المسؤول على حساب معاناة ملايين الجنوبيين والشماليين على السواء، الذين ينبغي أن يكونوا هم أصحاب القرار المصيري كلٌ بما يتعلق بأرضه وشعبه ودولته ومستقبل أبنائه وبناته.