قد يبدو الحديث عن الرئيس السابق علي عبد الله صالح وكأنه نوعٌ من التشفي والشماتة، خصوصاً حينما يكون المتحدث من ضحايا سياساته غير السوية التي ذاق خصومه من خلالها المرارات العديدة، في حياتهم السياسية والمعيشية والمهنية والعائلية والشخصية، لكنني سأحاول تحاشي الوقوع في هذا المطب غير المحبذ لسبب بسيط وهو إن ثقافة التشفي ليست مما أؤمن به من أخلاقيات ولا الشماتة مما تربيت عليه من سلوك، لكنني أشير قبل الولوج في مناقشة ما تعرض له الفلم الوثائقي الذي عرضته قناة العربية السعودية مؤخراً عن الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح تحت مسمى "المعركة الأخيرة"، إلى أن أي مناقشة نقدية لسياسات الرجل ومواقفه لن تخرج عن كلما قلناه عن الرجل في حياته بل وأثناء وجوده في صدارة المشهد السياسي اليمني ويتعلق الأمر بمجموعة من الحقائق التي يعلمها الكثيرون من الملمين بتفاصيل المشهد السياسي اليمني من أنصار الرجل وخصومه، وأهم هذه الحقائق:
• إن علي عبد الله صالح ظلَّ من أكثر الساسة استخداماً لمفردات "الوطن" و"الثورة" و"الجمهورية" و"الوحدة" و"الديمقراطية" منذ صعوده إلى كرسي حكم الجمهورية العربية اليمنية في يوليو من العام 1978م، وخصوصاً بعد العام 1990م، لكن هناك فرق بين أن يتغنى أحدهم بشعارٍ من الشعارات وبين أن يقصد في تغنيه هذا ما يتضمنه هذا الشعار من معاني وأبعاد يبلغ بعضها حد القداسة، فالرئيس صالح كانت هذه الشعارات بالنسبة له تعني وجوده على رأس السلطة في اليمن، سواءٌ قبل مايو 1990م أو بعده، بل إن النهم على السلطة قد تضاعف بعد ذلك العام لأسباب العوائد المالية المهولة التي حققها الرجل وأولاده وأقرباؤه وأتباعه إثر نهبهم للجنوب بعد العام 1994م.
• من هذا المنطلق فقد اعتبر الرئيس صالح وأتباعه أن صلتهم بالوطن والثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية قد انتهت بخروجهم من السلطة، وأن هذه المسميات قد آلت إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي وطاقمه السياسي رغم احتفاظ صالح وأنصاره بنصيب الأسد من سلطة ما بعد الخروج، وهكذا صاروا يتعاملون مع تلك المسميات من منطلق الموقف العدائي تجاه الرئيس عبدربه منصور، وصار لدى الرئيس صالح الاستعداد الكامل للتعامل بل والتحالف مع كل من يتصدى للرئيس هادي ورئيس وزرائه الأستاذ با سندوة ثم لاحقاً الأستاذ خالد بحاح، وكان هذا هو المنطلق للتحالف مع الحوثيين الذين كان مشروعهم واضحاً منذ البداية وازداد وضوحاً بعد اجتياحهم لعمران وبلوغهم مشارف صنعاء.
• هناك حقيقة يقفز أو يتستر عليها كل المتحدثين إلى البرنامج (الوثائقي) من أتباع صالح بما في ذلك بعض الزملاء المتزنين من أعضاء مجلس النواب، وفحوى تلك الحقيقة إن التجمعات الاعتصامية الخمسة، خلال شهري أغسطس وسبتمبر 2014م، التي أغلقت مداخل صنعاء الخمسة (طريق الحديدة؛ طريق عمران؛ طريق المطار طريق مأرب وطريق تعز) والتي ضمت عشرات وربما مئات الآلاف من المعتصمين والتي مثلت تمهيداً لاقتحام العاصمة بالسلاح (واليمنيون جميعهم مسلحون)، كلها كانت من جماهير وقيادات المؤتمر الشعبي العام وقد شاهد كاتب هذه السطور بأم عينيه العشرات من قيادات وكوادر المؤتمر المعروفة ومن قادة وجنود الحرس الجمهوري الموالين لصالح الذين خلعوا البدلة العسكرية ، وارتدوا الزنة والعسيب والعمامة وراحوا يرددون شعار الموت، وكل ذلك لا يمكن أن يكون قد جرى بدون إيعاز وتشجيع وتحريض من الرئيس صالح ما يؤكد عمق الشراكة بين جماعة الحوثي وأنصار الرئيس صالح.
• ومن هنا فإن القول إن العلاقة بين الحوثيين وعلي عبد الله صالح وحزبه لم تكن علاقة تحالفية قول مجافي للحقيقة، لأن هذا الأمر وإن ظل سرياً وطي الكتمان وتعود بداياته إلى أيام حروب صعدة الست، قبل إن يعلنه علي عبد الله صالح بنفسه في خطابه الرسمي الذي أورده الفيلم الوثائقي؛ إلَّا إن معارك الحوثيين في عدن ولحج وأبين والضالع وبعض مناطق الشمال، في البيضاء وإب ومأرب وما رافقها من عمل سياسي مناصر للغزاة كانت تحت قيادات عسكرية وسياسية وتنفيذية من أتباع صالح وما ضبعان والمجيدي وبن حبتور وعبد الحافظ السقاف وعلي قاسم طالب وحسين حازب وأحمد علي الأحول وأولاده، وغيرهم إلا عينات لأرتال واسعة من القادة العسكريين والسياسيين من أتباع "الزعيم" ممن وقفوا في خندق واحد مع الحوثيين وكانوا رديفاً قوياً لهم في تنفيذ أبشع الأعمال بحق المقاومين بل وبحق المدنيين العزل من السلاح ومنهم أطفالٌ ونساءٌ ومسنُّون كما جرى في عدن والضالع على وجه الخصوص.
لكن خلف هذه الحقيقة تكمن حقيقة أو حقائق أخرى لم يتعرض لها كل المتحدثين كما لم ولن يتعرض لها الحوثيون، وأهم هذه الحقائق ما يلي:
1. إن الرئيس صالح الذي اعتاد على سياسة "اللعب بالبيضة والحجر" (كما يقول إخوتنا المصريون)، وقد نجح في هذه السياسة مع كل حلفائه السابقين الذين كان يغدر بهم بمجرد تحقيق المآرب التي خطط لبلوغها سلفاً؛ أقول أن الرئيس صالح قد أراد أن يُسَخِّر الجماعة الحوثية لإعادة غزو الجنوب، واستعادة السيطرة على كل المناطق التي خرجت عن طوعه أثناء ثورة الشباب السلمية، وبالذات صنعاء وتعز وإبّ ومأرب، والحديدة إلى حدٍ ما، وتوقع أن الحوثيين سيتبددون في هذه المناطق وسيقتل منهم الكثيرون، وسيفقدون إمكانية استعادة قوتهم من جديد، وهذا ما لم يحصل، كما توقع أنه بمجرد استعادة الهيمنة على تلك المناطق سيقلب للحوثيين ظهر المجن كما فعل مع الحزب الاشتراكي في 1994م ومع حلفاء 1994م قبل نهاية التسعينات، لكن هذه الخطة لم تفلح أو إنها بنيت على تقديرات خاطئة؛
2. وبنفس التكتيك خطط الحوثيون للاستحواذ على المؤسسات الحكومية والعسكرية والأمنية ومن ثم تسخير عملية التوسع في محافظات الجنوب والوسط، لفرض الأمر الواقع على صالح وأصحابه فلن يبقى أمامه إلا الامتثال لما يطلبونه منه أو الذهاب إلى المصير النهائي، وقد نجحت خطة الحوثيين وفشلت خطة صالح.
• ونأتي لما سمي بثورة 2 ديسمبر، والتي تمثل نموذجاً لما يُسَمَّى في الأدب السياسي بــ"المضحك المبكي".
فأولاً لا توجد ثورة في العالم يعلنها زعيم ضد حليف محدَّد ظل وإياه يعملان في خندق واحد ثم يقرر بغمضة عين التمرد على هذا الحليف من خلال إعلان الثورة عليه، ومن باب حسن النية سنفترض أنها لحظةٌ لفضِّ التحالف بين الشريكين، وإعلان الرئيس صالح التمرد على الهيمنة الحوثية التي شملت كل مفاصل السلطة التي كانت بيد صالح حتى بعد ثلاث سنوات من نقلها شكلياً إلى الرئيس هادي؛ لكن هذا التمرد وفض الشراكة قد جاء متأخراً وبلا رؤية ولا دراسة للاحتمالات التي سيترتب عليها والنتائج التي سيحققا؛
وثانياً لا توجد ثورة في العالم يقودها زعيم سياسي خبرته في القيادة (أقول في القيادة وليس فقط في ممارسة السياسة) أربعة عقود متواصلة من الزمن، فتعلن في يومها الأول ثم توأد في ثالث أيامها وتنطفئ في يوم وأدها وتغدو أثراً بعد عين، فالثورات عمل منظم يبدأ بالتحضير ورسم الأهداف الاستراتيجية وإعداد أدوات النصر ووسائله وتقدير إمكانيات الخصم، واتباع العديد من البدائل التكتيكية، ولو قُتل زعيمها أو بعض زعمائها ستبقى متقدة ومشتعلة بقوة أكثر أو أقل لزمن قد يقصر لكنه قد يطول، ولا يمكن أن ينطفئ كما تنطفئ شمعة صغيرة أمام هبة نسيم ضعيفة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن صالح الذي اعتاد على توجيه الدعوة لملايين أنصاره فيلتفون حوله في غمضة عين (بغض النظر عن وسائل ودوافع هذا الالتفاف)، إنه كما يبدو لم يدرك التحول الذي جرى في مزاج ونفسيات أنصاره بعد ثلاث سنوات على خروجه (الشكلي) من السلطة وخصوصاً بعد خطابه الضعيف والمهزوز في ذكرى تأسيس المؤتمر، وكما يبدو أن الرئيس لم يستوعب أن هؤلاء الأنصار لم يكونوا محبين لشخصه فقط، بل لعطاءاته المباشرة التي لم تنقطع، وقد جاء من يعطيهم أكثر مما كان الرجل يعطيهم.
• لقد وقع المتحدثون في تناقضات عدة، في معظم ما أدلوا به من أحاديث، وإن لم تكن تلك تناقضاتهم فهي تناقضات الزعيم الذي يتحدثون عن مواقفه وسياساته، فبالإضافة إلى التناقض المتعلق بإنكار التحالف بين الحوثيين وصالح، هم يقولون مثلاً إن صالح رفض وساطات قبلية بل وخارجية (من قبل سلطنة عمان) كانت تضمن له الخروج الآمن إلى أي دولة عربية واعتبر الخروج من صنعاء خطاً أحمرَ، لكنه وفي لحظة معينة يقرر الخروج (غير الآمن)، ليس إلى الخارج، بل إلى حصن عفاش بسنحان؛ ألم يكن من الأجدى له الخروج الآمن من البلد بدلاً من الهروب تحت وابل النيران الحوثية إلى قريته، التي لم يتبقَّ له من الوطن سواها.
• وأخيراً هناك ما لم يقله المتحدثون، لكنه كان مفهوما من سياق الكلام، وهو ما يحمل دلالات عميقة، ويتعلق الأمر بمحاولة الإيعاز أن من وراء وصول الحوثيين إلى صنعاء كان الرئيس هادي ووزير دفاعه محمد ناصر أحمد، وقد جرت الإشارة إلى أن عملية الهيكلة التي أقدم عليها الرئيس هادي قد دمرت القوات المسلحة وأفقدتها القدرة على مواجهة الحوثيين!! ولأنني لست في موقع الدفاع عن الرئيس هادي، وقد أتفق مع الذين يشيرون إلى عدم قدرته على التحكم في مسار الأحداث وأيلولتها إلى تلك المآلات المأساوية، لكن ما أعرفه ويعرفه معظم السياسيين والمتخصص العسكريين، أن كل ما فعله الرئيس من إجراءات مما أسمي بإعادة الهيكلة كانت في الغالب الأعم تغيير مسميات وأسماء واستبدال بعض القيادات بأخرى من نفس الطيبنة والعجينة، فبدلاً من مسمى المناطق العسكرية حسب الجهات الجغرافية أسماها الرئيس هادي حسب الأرقام الحسابية (الأولى بدلاً من الشرقية)، (الرابعة بدلاً من الجنوبية) و(الخامسة بدلاً من الشمالية الغربية) وهكذا، كما جرى استبدال بعض مسميات الأسلحة والأجهزة، كالأمن المركزية بالقوات الخاصة، والحرس الجمهوري بالحراسة الرئاسية، وغيرها، أما القيادات العسكرية والأمنية فقد علم الجميع أن استبدال الأسماء كان يأتي بضغوط من ممثلي طرفي الصراع في السلطة، فيأتي علي محسن بمرشح لقيادة الوحدة الفلانية ويأتي أحمد علي، أو من يمثله، بمرشح مقابل لقيادة وحدة أخرى، فبقي التقاسم كما كان قبل الهيكلة ولم تتغير سوى الأسماء والمسميات بدليل أن قيادة المنطقة العسكرية الأولى (الشرقية سابقاً) ما تزال حتى اليوم تمثل النصير الأقوى للحوثيين ومصدر آمن لتزويدهم بالأسلحة المهربة من إيران عبر شواطئ بحر العرب ومنافذ الحدود مع الشقيقة عمان، ولم يستطع تغييرها لا هادي ولا رشاد العليمي، والقصد هنا أن إعادة الهيكلة لم تمس جوهر الثقافة العسكرية والأمنية للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية ولا عقيدتها القتالية، فبقي أنصار صالح والمؤتمر أنصاراً لهما وأنصار علي محسن والإصلاح على مناصرتهم لهما
وباختصار شديد أن وثائقي العربية لم يقدم جديداً يستحق الضجة الكبيرة التي روج لها الإعلام وما صنعته من ردود الأفعال، وإنما أكد حقائق صارت معروفة منذ عقود لكل من يعرف تفاصيل الشأن السياسي اليمني في عهد الرئيس صالح وما بعد خروجه الشكلي من السلطة.