في الأوساط الدبلوماسية والسياسية كثيرًا ما تُقابل الدعوات المطالبة باستقلال الجنوب بتحفّظ ويجري تصويرها على أنها عامل محتمل لزيادة التفكك في منطقة تعاني أصلًا من الهشاشة وعدم الاستقرار غير أن هذا التوصيف يتجاهل جملة من الحقائق القائمة على الأرض فاستقلال الجنوب لا ينبغي قراءته كعامل مُزعزع للاستقرار بل كخيار سياسي واقعي قادر إذا ما أُدير ضمن إطار مسؤول ومنضبط على ترسيخ الاستقرار والاستجابة لإرادة شعبية واضحة ومتطلبات أمنية باتت تتجاوز منذ زمن حدود اليمن الداخلية لتلامس مصالح إقليمية ودولية أوسع
إن مطلب الجنوب بتقرير مصيره لا يقوم على دوافع ظرفية أو ردود فعل آنية بل يستند إلى هوية سياسية تشكّلت عبر عقود من التجربة التاريخية والمدنية عكست مسارًا متواصلًا من التطلّع الشعبي نحو نموذج حكم مستقل وقابل للاستدامة وقد تعزّز هذا التوجه مع فشل ترتيبات الوحدة منذ تسعينيات القرن الماضي وما تبعها من تهميش سياسي وإقصاء اقتصادي وتآكل ممنهج للحقوق الأمر الذي جعل الاستمرار في إنكار هذه التطلعات عاملًا لإدامة الأزمة لا معالجتها
في المقابل يفرض الشمال اليمني اليوم نموذج سلطة تهيمن عليه جماعة مسلحة ذات طبيعة أيديولوجية مغلقة تقوم على الإقصاء المنهجي واحتكار القرار وترفض أي صيغة شراكة وطنية أو تسوية شاملة هذه الجماعة لا تُبدي استعدادًا حقيقيًا للاندماج في نظام حكم جامع ولا للتعاطي المسؤول مع المجتمع الدولي بل ترتبط بمشروع إقليمي تقوده إيران ما يجعلها عنصر تهديد دائم للأمن الإقليمي والدولي
وعلى النقيض من ذلك يسعى الجنوبيون إلى بناء دولة الجنوب العربي الاتحادية كنموذج مدني منفتح قائم على المؤسسات وسيادة القانون والشراكة السياسية مع تقديم ضمانات واضحة للمجتمع الدولي فيما يتصل بحماية المصالح المشتركة واحترام الاتفاقيات الدولية والانخراط البنّاء في منظومة الأمن الإقليمي والدولي
ومن زاوية الأمن الإقليمي أثبت الجنوب خلال السنوات الماضية أنه فاعل لا غنى عنه فقد لعب دورًا محوريًا في مكافحة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها القاعدة وداعش إلى جانب تفكيك شبكات تهريب السلاح والمخدرات والاتجار بالبشر ومواجهة القرصنة البحرية كما أن موقعه الجغرافي المطلّ على مضيق باب المندب وخليج عدن والبحر العربي يمنحه أهمية استراتيجية بالغة في تأمين واحد من أهم شرايين التجارة والطاقة في العالم
أما الإصرار على الإبقاء على صيغ سياسية هشة أو تحالفات شكلية أُنتجت ضمن أطر رخوة كما هو الحال في بعض ترتيبات الحكم القائمة فقد أثبت عجزه وفشله في تحقيق الاستقرار هذه البنى لم تُنتج مؤسسات قادرة على الحكم بل سمحت بتمدد النفوذ الإيراني عبر الحوثيين وتوسّع نشاط الجماعات الإرهابية وتفاقم الفوضى الأمنية والإنسانية بما شكّل تهديدًا مباشرًا للإقليم وللملاحة الدولية
إن الإبقاء على الوضع الراهن ينطوي على مخاطر جسيمة فالإطار الوحدوي الذي فشل في إنتاج دولة فاعلة لم يمنع الانقسام ولم يحقق الأمن بل أوجد فراغًا استغلته قوى مسلحة وأطراف خارجية لتمرير أجنداتها ومن منظور دبلوماسي فإن التمسك بهذا النموذج يقوّض أهداف الاستقرار الإقليمي والمصالح الدولية
في المقابل فإن دعم مسار سياسي واضح يقود إلى قيام دولة جنوبية اتحادية يقدّم بديلاً واقعيًا ومستدامًا يستند إلى شرعية شعبية وقدرة مؤسسية واستعداد حقيقي للانخراط مع الإقليم والعالم كشريك مسؤول في الأمن والتنمية
وعليه فإن استقلال الجنوب لا ينبغي النظر إليه كتعقيد إضافي بل كجزء من الحل فمستقبل الاستقرار في هذه المنطقة لن يُبنى على إنكار الواقع بل على التعامل معه بواقعية سياسية وقانونية والجنوب العربي في هذا السياق لم يعد مجرد طرف في نزاع داخلي بل مكوّن سياسي يسعى إلى بناء دولته والمساهمة في ترسيخ أمن إقليمي طالما كان عرضة للاهتزاز.
المستشار محمد_الساحمي
مدير مكتب المجلس_الانتقالي_الجنوبي المملكة المتحدة