زرعتُ في ظلِّ ودادِك غصنَ الأمل، وأنتَ رويتَه
وكلُّ شيءٍ وافقَ هواك، أنا أحببتُه
(كوكب الشرق)
في ظل التحديات البيئية والمناخية المتسارعة التي تواجه بلادنا، يبرز التشجير بوصفه خيارًا وطنيًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن أي مشروع تنموي أو اقتصادي. فغرس الشجرة ليس فعلًا تجميليًا عابرًا، بل هو استثمار طويل الأمد في صحة الإنسان، واستقرار المناخ، وحماية التربة، وتعزيز الاقتصاد المحلي، وصون الهوية البيئية لمدننا وطرقاتنا وصحارينا.
التشجير علم قبل أن يكون حلمًا
تؤكد الدراسات البيئية أن التشجير المنهجي والمدروس يسهم بفاعلية في الحد من زحف الرمال، وخفض درجات الحرارة، وتقليل التلوث الهوائي، ورفع رطوبة الجو، وتثبيت التربة على جوانب الطرقات وفي المدن والقرى. كما يشكّل غطاءً نباتيًا واقيًا للبنية التحتية من آثار السيول والرياح، ويخلق موائل طبيعية للتنوع الحيوي، ويدعم الأمن الغذائي عبر تنشيط تربية النحل وإنتاج العسل، وكذلك الحصول على الثمار.
طرقات خضراء… مدن أكثر حياة
لنتخيّل — وهو حلم مشروع وقابل للتنفيذ — أن تنطلق نقطة البداية من منطقة العريش، على امتداد الساحل باتجاه مدينة زنجبار، عاصمة محافظة أبين، عبر ثلاثة خطوط تشجير مدروسة (شمالي – أوسط – جنوبي)، تمتد حتى ما بعد دوفس لتتصل بالخط الدائري/الدولي.
وفق تقديراتي الأولية، قد يتطلب هذا المسار نحو 36 ألف شجرة من الأنواع المتحملة للجفاف والملوحة، وفي مقدمتها السدر، وجميع أنواع الأكاسيا، والديمن، والمريمره، ونخيل التمر، ونخيل الزينة، وهي أنواع أثبتت نسب نجاح عالية قد تصل إلى 90% بعد استقرار جذورها.
ثم تتوسع الرؤية بخطّين باتجاه شقرة (نحو 8 آلاف شجرة)، وخطّين آخرين باتجاه الكود – جعار – الحصن – باتيس بعدد مماثل.
وخلال أربع إلى خمس سنوات فقط، سنشهد ثمارًا تُؤكل، وظلالًا تُستظل، وطرقاتٍ تبعث على الراحة والطمأنينة، وتحول التنقل والسفر إلى تجربة جمالية وصحية.
شجرة تجمع الناس وتُبهج النفوس
بكل تأكيد، سيأتي يوم تنزل فيه من سيارتك لتأكل من ثمار شجرة ساهمتَ أنت وغيرك في زراعتها وحمايتها وريّها.
وتخيّل المشهد الجمالي وأنت تقود سيارتك، تنظر يمنة ويسرة إلى صفوف خضراء تشرح الصدر وتبعث السكينة في النفس.
وربما تتعطل سيارتك، أو تخرج في نزهة مع أسرتك، فتجلسون تحت ظل شجرة طيبة كالسدر، تلك الشجرة المباركة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وتأكل من نبقها اللذيذ المتساقط تحتها دون أن تبذل أي جهد.
إن زراعة السدر والنخيل ليست خيارًا عاطفيًا، بل قرارًا واعيًا لما لهما من أهمية غذائية ودوائية وبيئية واقتصادية.
اختيار الأنواع… قرار علمي
لا يعني هذا حصر التشجير في نوعين فقط؛ فالتنوع النباتي هو الأساس في أي منظومة بيئية ناجحة. ومن الأنواع الملائمة لبيئاتنا:
السدر: قيمة غذائية ودوائية عالية، وتحمل بيئي مميز.
النخيل: ركيزة للأمن الغذائي، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم عشرين مرة في ست عشرة سورة.
التيكوما، البونسيانا، النارجين: جمال ظلي وإزهار موسمي يضفي لمسة حضرية راقية.
الأكاسيا (بأنواعها): كثيفة الأزهار، داعمة للنحل، وتزهر مرات متعددة سنويًا.
نباتات رعوية وعطرية محلية مثل المريمره، والديمن، والحُمَر، وشجرة الميطي التي تكاد أن تنقرض.
ويبقى الاختيار الأمثل بيد علماء النبات والغابات والمهندسين الزراعيين، فبلادنا زاخرة بالكفاءات القادرة على تصميم غطاء نباتي ملائم لكل منطقة وبيئة.
من أبين إلى لحج… رؤية قابلة للتعميم
هذه الرؤية لا تقتصر على محافظة أبين، بل يمكن تعميمها على محافظة لحج، من دار سعد إلى الحوطة، وعلى الشوارع العامة والحدائق والميادين، وفي كل بقعة من هذه الأرض الطيبة.
ولنسأل بواقعية:
كم سننتج من طرود النحل؟
كم كيلوغرامًا من العسل؟
كم فرصة عمل خضراء سنوفر؟
الإجابة تبدأ… بشجرة.
التمويل… إعادة ترتيب الأولويات
قد يُثار التساؤل حول الإمكانيات المالية، وغالبًا ما تُلقى المسؤولية على عاتق الدولة وحدها. غير أن الواقع يبيّن أن ملايين الريالات تُنفق سنويًا على برامج دعم متعددة (أعلاف، بذور، شبكات ري، ورش تدريب).
لسنا ضد هذه الجهود، بل ندعو إلى تخصيص نسبة ثابتة ومعلنة للتشجير ضمن كل مشروع تنموي.
تخيّلوا أثر تحويل جزء يسير من هذه الموازنات إلى غرسٍ مدروسٍ ومستدام… كيف ستبدو بلادنا بعد سنوات قليلة؟
رسالة أخيرة
التشجير مسؤولية جماعية:
الدولة، والمنظمات، والسلطات المحلية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والأفراد.
شجرة اليوم هي ظل الغد، وغذاء بعد الغد، وبيئة آمنة لأجيال قادمة.
اللهم أعنّا على عملٍ نافع، ينتفع به المقيم والمسافر وعابر السبيل.
عبدالقادر السميطي
دلتا أبين