آخر تحديث :السبت-13 ديسمبر 2025-07:58م
أخبار وتقارير


أبين تبيع الماء ولا تبيع الموز

أبين تبيع الماء ولا تبيع الموز
الجمعة - 12 ديسمبر 2025 - 10:31 م بتوقيت عدن
- أبين تايم/خاص

عندما نذكر أبين الخير، تحضر في ذاكرتنا تلك الأيام التي كانت فيها دلتا أبين السلة الغذائية لجنوب اليمن، والوجهة الأولى للأبحاث الزراعية والإرشاد والتجارب الحقلية. نتذكر مركز البحوث الزراعية، ومركز الإرشاد والتدريب الزراعي، ولجنة أبين الزراعية، وقطن أبين بورد، والمحلج، ومصنع زيت بذرة القطن… تاريخ طويل من الإنتاج والريادة الزراعية، تاريخ طويل من النشاط والحركة، حيث يتجه آلاف العمال كل صباح إلى مرافق العمل والإنتاج.


دلتا أبين، بتربتها الخصبة ومساحتها التي تقارب 85 ألف فدان، كانت وما زالت قادرة على إنتاج كل أنواع الفواكه والخضروات والحبوب. وموقعها الفريد بين وادي بنا المزود بسد باتيس التحويلي الذي ينظم توزيع السيول عبر قنوات رئيسية وبين وادي حسان الذي ينتظر استكمال مشروع سده الاستراتيجي حتى اليوم، جعل من الدلتا أرضًا لا تشبه غيرها.


الموز: قصة دخلت أبين من بوابة المياه الغزيرة


دخل محصول الموز إلى دلتا أبين في الخمسينيات، وكانت باتيس أول منطقة تحتضنه بسبب وفرة المياه آنذاك. ومع مرور السنوات، توسعت زراعته حتى أصبحت دلتا أبين تنتج ما بين 40 إلى 70 طنًا يوميًا طيلة أيام السنة – رغم عدم توفر إحصائية رسمية – وفق تقديرات العاملين في القطاع من وكلاء وتجار.


وتتوزع زراعة الموز اليوم في مناطق عديدة: باتيس، أمجبلة، كبث، يزعق، يرامس، الحصن، الرواء، جبل لحبوش، وبعض أطراف جعار والديو والمسبمير والكود وزنجبار… جميعها تنتج، وجميعها مستنزفة للمياه بدرجات متفاوتة.


الموز محصول ينعش السوق ويستنزف الأرض


لا يمكن إنكار الجانب الإيجابي لمحصول الموز؛ فهو يستوعب مئات الأيدي العاملة يوميًا في القطع، الغسيل، الفرز، التلميع، التعبئة، التغليف، الوزن والنقل. قطاع كامل من الرجال والنساء يعيش من هذا المحصول، وعشرات القاطرات الثقيلة تتجه يوميًا إلى نقاط الوزن لنقله إلى مناطق الاستهلاك.


كما أن العائد المالي للمزارع مربح للغاية؛ فالموز ذو دخل شهري، وسعر الكيلو قد يصل إلى 350 ريال في أيام الذروة، ويرتفع إلى 600 ريال في مواسم الشتاء. إضافة إلى ذلك، بدأ بعض المزارعين والتجار ببناء ثلاجات للإنضاج والخزن، مما ساعد على تنظيم المعروض.


لكن لكل شيء ثمن


مع توسع زراعة الموز، ظهرت مشكلات كبرى تهدد مستقبل دلتا أبين الزراعي:


1. استنزاف المياه الجوفية

– الاعتماد الكبير على الطاقة الشمسية ضاعف الضخ لساعات طويلة.

– انقطاع السيول وقلة الأمطار أدى إلى جفاف عشرات الآبار.

– عمليات التغزير التي يقوم بها المزارعون لم تعد مجدية.



2. الحفر العشوائي للآبار

توسع غير منظم بلا رقابة جعل من دلتا أبين حقلاً مفتوحًا للآبار العميقة التي تنهش المخزون الجوفي.



3. تراجع المحاصيل النقدية

قبل 1989 كانت أبين تزرع من 7,000 إلى 15,000 فدان من القطن، بإنتاجية تقدر من 10 مليون رطل إلى 22 مليون رطل. أما اليوم فلا يتجاوز المزروع 250 فدانًا فقط، وهذا الموسم 25م لم تتجاوز المساحة المزروعة من القطن 70 فدانًا فقط، واحتمال إنتاج أقل من 70 ألف رطل، وهذا الكلام على مسؤوليتي الشخصية.




كذلك تراجعت زراعة الحبوب: الذرة، الدخن، الذرة الشامية، السمسم، الفول السوداني وغيرها من محاصيل الأمن الغذائي.


4. انتشار السيسبان والتصحر الزراعي

توقّف مياه السيول عن الوصول إلى عشرات آلاف الأفدنة بسبب اعتراضها في مجرى مزارع الموز، ما أدى إلى تصحر واسع للأراضي الزراعية وازدياد انتشار أشجار السيسبان التي تلتهم الأراضي عامًا بعد عام.



5. تعطّل قنوات الري والمنشآت المائية

القنوات لم تعد قادرة على استيعاب السيول، وبعض المنشآت تضررت دون صيانة أو متابعة جادة.




من المستفيد ومن الخاسر؟


الحقيقة الواضحة… المستفيد الحقيقي من التوسع في زراعة الموز لا يتجاوز 150 مزارعًا، بينما فقد عشرات الآلاف من المزارعين أراضيهم، أو تحولت إلى صحراء قاسية. السبب واضح: مياه السيول التي تصل إلينا تذهب مباشرة إلى مزارع الموز، بينما تُحرم آلاف الأفدنة التي يعتمد عليها معظم المزارعين. وهكذا أصبحت أبين مجازًا تبيع الماء وليس الموز.


ما العمل؟


عند طرح مثل هذه المواضيع، ليس الهدف إلغاء زراعة الموز، بل تقنينها وإنقاذ الدلتا قبل أن تفقد روحها الزراعية بالكامل. ولا يمنع التوسع في زراعة الموز في المناطق الغنية بالمياه وخصوصًا مياه الغيول الدائمة.


يمكن طرح عدة حلول من أهمها:


1. منع استخدام مياه السيول في مزارع الموز لأكثر من مرة في العام، وإعطاؤها الأولوية للمحاصيل الغذائية والأراضي المستحقة.



2. وقف الحفر العشوائي للآبار، ووضع نظام صارم وفرض عقوبات على المخالفين، مع الالتزام بالمسافة بين البئر والأخرى.



3. تحديد حد أعلى للمساحات المسموح بزراعتها بالموز لكل مزارع.



4. إعادة إحياء المحاصيل النقدية والتقليدية كالقطن والحبوب والمحاصيل الزيتية لتوازن التركيب الزراعي.



5. صيانة قنوات الري والمنشآت المائية ورفع كفاءتها لاستيعاب أكبر كمية من مياه السيول.



6. استكمال سد حسان لتأمين توزيع عادل ومنظم للسيول وتغذية الحوض المائي للدلتا بشكل عام.




دلتا أبين ليست مجرد أرض زراعية… إنها حياة ممتدة عبر أجيال. والموز رغم أهميته الاقتصادية، لا يجب أن يتحول إلى السبب الذي يجعل الدلتا تفقد ماءها وتراثها ومحاصيلها التاريخية. أبين تستحق أن تُدار مواردها بحكمة… أبين تستحق أن تعود كما كانت، أرض الخير وسلة الجنوب الغذائية.


في الختام…


اسمحوا لي أن أسرد قصة أحد المزارعين، اسمه محبوط العمل، في إحدى قرى دلتا أبين. كان لديه أرض زراعية صغيرة ورثها عن والده. وبعد أن رأى أرباح الموز لدى بعض جيرانه، قرر أن يخوض التجربة. استدان المال، وحفر بئرًا، واشترى الشتلات، وبدأ العمل.


في السنة الأولى، كان كل شيء يبدو مبشرًا، لكن مع دخول موسم الجفاف، بدأت البئر تُضعف، وقلّت المياه يومًا بعد يوم. الموز يحتاج كمية كبيرة من الماء كل 4 أيام على الأقل، وكل تأخير يعني ضعف الشجرة وضعف الإنتاج. حاول محبوط العمل الاستمرار، فزاد تشغيل الغطاس، وارتفعت فاتورة الديزل، وتفاقمت مديونيته. وفي منتصف الموسم الثاني، جفت البئر تمامًا، ومات نصف المزرعة عطشًا، وبقيت الأشجار ضعيفة وغير مثمرة. اضطر محبوط العمل لبيع جزء من أرضه ليسدد الديون، ثم باع الغطاس وخرج من تجربة كادت أن تُخرجه من الزراعة نهائيًا.


ولا ننسى ما حصل في الأعوام 2011-2015، حين ترك المزارعون مزارعهم وهجروها بسبب الحروب ونقص مادة الديزل، ما أدى إلى تلف بساتين الموز بشكل كبير جدًا.


الحليم تكفيه الإشارة.

عبد القادر السميطي – دلتا أبين