آخر تحديث :الإثنين-08 ديسمبر 2025-01:48ص
أخبار وتقارير


قيام الدول وسقوطها: امتحان الأخلاق قبل الجغرافيا

قيام الدول وسقوطها: امتحان الأخلاق قبل الجغرافيا
الأحد - 07 ديسمبر 2025 - 11:31 م بتوقيت عدن
- أبين تايم/خاص

المحامي| مثنى السفياني

إن الأوطان تبنيها مبادئ الحق، والحق اسمٌ من أسماء الله تعالى، وإن رسوخ الأنظمة لا يأتي من الشعارات الفضفاضة، وإنما من القيم والمبادئ التي تؤمن بها تلك الأنظمة، والإيمان يعني التطبيق والتنفيذ على أرض الواقع. ولقد انتهت دول عظيمة وإمبراطوريات بسبب عدم صلاحية الأنظمة، لكن الدولة التي تُبنى على القيم وعلى الحق ومبادئ العدالة لا يمكن لها السقوط؛ إنها قواعد الأخلاق. وكم ظهرت دول وإمبراطوريات استمرت قرونًا من الزمن بسبب ما تحمله من قواعد الأخلاق وقيم عميقة، ولكن بعد أن انتهت وتقلصت أخلاق تلك الدول انهارت تلك الكيانات العظيمة. وللعلم أن انهيار الدول واقتتالها ليس بضيق أو صغر جغرافيتها، وإنما بضعف الأخلاق وانحدارها، والأخلاق ليست كلمة بسيطة، إنها مصفوفة نظام ومبادئ، إنها مجلد في كلمة. وصدق الشاعر حين قال:


إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا


فعلاً لا يمكن لأي بلد أن يضيق بأهله، وما نراه في عالم اليوم خير دليل؛ ملايين ومئات الملايين يعيشون في بلدان محترمة تحكم وتتحكم وتحتكم إلى الأخلاق. نعم، تحتكم إلى القانون، فالقانون هو وثيقة الأخلاق الأولى؛ فالبشر ليسوا كائنات عادية، هم أناس مكلَّفون أي أنهم أصحاب عقل وإرادة، وهذا تكريم من الله. نعم، فالإنسان في مرتبة عالية في سلم المخلوقات لكونه خُلق من روح وجسد وعقل، فهو أرفع حتى من الملائكة؟! قد يستهجن البعض قولي هذا، ولكن الحق أقول لكم، أو كما أراه حقًا بما نؤمن به، أن الملائكة خُلقت من روح وعقل بدون جسد، لأنها تتشكل بأجساد كثيرة حسب مهمتها المكلفة بها من خالقها، والحيوانات خُلقت من روح وجسد دون عقل وتتحرك بالغريزة، لكن الإنسان خُلق من جسد وروح وعقل ولديه حرية الاختيار، ولذلك إذا تغلب فيه العقل على الجسد كان عند الله أرفع من الملائكة، ولكن إن تغلبت فيه غرائز الجسد دون العقل كان عند الله أدنى من الحيوان.


هذا ليس كلامي وليس فلسفة من عندي، هذا الكلام ذكره الإمام الماوردي أحمد بن الحسين (رحمه الله) قبل ألف عام في مؤلفه العظيم (أدب الدنيا والدين) الذي ألفه في البصرة قبل ألف عام، والحمد لله لدي نسخة من مؤلفه. ألفه قبل ألف عام وتحدث فيه عن أمور عظيمة بأسلوب أدبي وعلمي رفيع.


قبل ألف سنة، والعالم الجديد بالقارات الثلاث (الأمريكتين الشمالية والجنوبية وأستراليا) لم تكن خُلقت بعد، يعني ولايات أمريكا المتحدة وكندا وأستراليا والمكسيك وبقية أمريكا اللاتينية من البرازيل والأوروغواي والأرجنتين… إلخ، لم تظهر، وإنما كانت هناك سكان قارات العالم القديم (آسيا وأفريقيا وأوروبا).


لذلك أقول إننا كمسلمين منذ فترات طويلة فشلنا في تأسيس الدولة التي أرادها الله للناس، لأننا تخلينا عن التمسك بنواصي العلم الحقيقي، لأننا هجرنا مصدر العلم الحقيقي كتاب الله (القرآن العظيم) الذي نزله خالق كل شيء وخالق الوجود وخالق العلم… إلخ.


لن أطيل عليكم، إننا أمة استبدلنا أحكام الله تعالى وشرعه بعادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، تركنا مصدر العلم وفسد الجهل، وتسيد قرونًا من الزمن حتى أصبحت لغة العلم المادي هي اللغة اللاتينية، حتى أن جدول مندليف، العالم الروسي الذي فُرض علينا، والذي حصر فيه العناصر الطبيعية الكيميائية في الأرض بستة عشر عنصرًا، حفظناها عن ظهر قلب كلها مع رموزها اللاتينية، وحتى اليوم لا نعلم ما هو المغنيسيوم، ولم نكن نعلم ما هو النشادر إلا وقد بلغنا من العمر عتيًّا، ولم نكن نعلم أن كلوريد الصوديوم هو الملح، وأن غاز النشادر هو (غاز المخلفات الآدمية والحيوانية)، والله إننا حتى اللحظة لا أعلم ما هو المغنيسيوم؟!


العلم بمصطلحات لاتينية، وكذلك مراكز التدريب والتجريب لم تتوفر وغير متاحة، فمن أين للطلاب أن يتعلموا؟ والعلم التجريبي ضائع، لأن علم الكيمياء والفيزياء والرياضيات ـ طبعًا أسماء لاتينية مع تقديرنا لاسم الرياضيات (أساس العلوم) ـ كانت تُدرَّس وكأنها علوم غريبة غير مفهومة… إلخ.

لكن دعونا نعود للإمام الداهية (رحمة الله عليه) الماوردي في مؤلفه الثمين (أدب الدنيا والدين) حتى نلطف لكم الجو، حيث تحدث فيه عن أمور عظيمة، تحدث عن أمور دينية وأخرى دنيوية؛ ذلك الكتاب كنز علمي عظيم. وحتى نخرجكم من الروتين والملل، ورد في ذلك الكتاب عن العقل، يقول الإمام طيب الله ثراه:


ورد في الأثر أن رجلاً من بني إسرائيل كان لديه حمار، وكانت سنينٌ عجاف شديدة، جاع حماره حتى كاد يموت، فنادى الإسرائيلي ربه فقال:

يا رب، لو أنا الرب ما جعلت حمارك يجوع.


فسمعه نبي من أنبياء بني إسرائيل في ذلك الزمان، فهمَّ به وأراد قتله، فأوحى الله إلى نبيه:

(أن اترك عبدي، إنما أُثيب الناس على قدر عقولهم).