كتب/حافظ الشجيفي
ليس سهلاً أن تمسك بخيط النور في متاهة مُظلمة بكل هذا الإتقان. والأصعب أن تدرك أن الظلمة ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة حسابات باردة، وإرادة معتمة، تخطط ليل نهار لتحويل مدينة كانت يوماً منارة للثقافة والحداثة إلى ساحة لتجارب التمزيق والتفتيت في معادلة مركبة، حيث لا يعدو الفساد الظاهر أو سوء الإدارة المتفشي أو الفشل المُعلن سوى أعراضٍ سطحية لجوهر الداء، بل هي في حقيقتها أدواتٌ مُفعّلة في مشروع أكبر، غايته إبقاء الجسد الواحد ممزقاً، والعقل الجمعي حائراً، والإرادة الوطنية مشلولة.
فما تشهده تعز، هذه المدينة الصامدة التي تحمل روح الوطنية وعنفوان الثورة، ليس مجرد انهيار للخدمات أو فوضى أمنية طارئة.بل إنه مسرح مُعد سلفاً لعملية تخريب منهجية، تُدار حلقاتها بحرفية عالية. فالفشل هنا ليس نقصاً في الكفاءة، بل هو فشل مُصمم، والفساد ليس انحرافاً أخلاقياً فردياً، بل هو فساد مُؤسسي مُمنهج، وسوء الإدارة ليس قصوراً في الأداء، بل هو إدارة معكوسة تهدف إلى تعطيل الحياة، لا إلى تسييرها. وكل ذلك يتكامل ليشكل صورة واضحة لعملية إدارة الانحدار بدقة، حيث تُستنزف طاقات المدينة، وتُقتل روح الأمل لدى أبنائها، ليصبحوا مهيئين نفسياً ومعنوياً للقبول بأي حلول تُقدمها تلك القوى الدولية التي تتلاعب، بمصير البلاد.
اللافت في هذه المعادلة هو تعدد العملاء المحليين الذين يُشكلون حلقات الوصل في هذه السلسلة التدميرية والذين يعملون لصالح قوى دولية. فهي لا تقتصر على طرف بعينه، بل تمتد من أعلى هرم السلطة المركزية، مروراً بالسلطة المحلية في المدينة، ووصولاً إلى الأحزاب والمكونات السياسية التي تتحرك ضمن حسابات ضيقة، إضافة إلى شخصيات اجتماعية بارزة تتحول، بعيداً عن الأضواء، إلى أدوات تنفيذ. وهذا التوزيع المتعدد للعملاء ليس دليلاً على تعدد الأجندات، بل هو تأكيد على وجود إستراتيجية موحدة توزع عليهم الأدوار لتعميق الشرخ، وإرباك المشهد، وجعل عملية تحديد المسؤول الوحيد مستحيلة، مما يضمن استمرار حالة الإرباك واللاحل.
وفي قلب هذه الآلية المعقدة، تقف "الذريعة" كأهم أسلحة الحرب الناعمة. فالقوى الدولية التي تدفع بهذا المشروع التقسيمي لا تعلن أبداً عن نواياها الحقيقية. وبدلاً من ذلك، ترفع شعارات مكافحة الفساد والإصلاح الإداري وبناء الدولة، بينما تعمل على الأرض على تعميق هذه الآفات نفسها. فتستخدم الفساد الذي تسببت به لتبرير مشاريعها التمزيقية، والفشل الذي تخطط له كمبرر كذريعة لانعدام الخدمات وانتشار الجربمة. وهي بذلك تراهن على عنصرين: الأول، تعقيد المشهد الداخلي لدرجة يصعب معها على المواطن العادي فهم جذور الأزمة. والثاني، وهو الأخطر، الرهان على جهل الشعب أو انشغاله بالمعاناة اليومية عن إدراك الخيوط الخفية التي تُحرك دمى المسرح.
ومن هنا، تنبع الأهمية القصوى للوعي الذي يفترض ان يتسلح به أبناء تعز. فالإدراك الجماعي بأن ما يحدث هو حرب مُعلنة بآليات خفية، وليس مجرد تراكم أخطاء أو سوء ادارة، هو بداية الحل. فهو السلاح الذي يمكن أن يحول الجمهور من متلقي سلبي للأحداث إلى فاعل رئيسي في مواجهتها. وحينما يدرك الناس أن الفساد متعمد، وانعدام الكهرباء متعمد، وانتشار السلاح متعمد، والفشل متعمد فإن نظرتهم إلى الأزمة ستتغير جذرياً. لن يعودوا يطالبون بإصلاحات شكلية من نفس النظام الذي يمارس عليهم هذا العنف البطيء، بل سيتجهون إلى محاسبة كل من تورط في هذه الشبكة، وسيعملون على بناء مراكز قوى شعبية حقيقية قادرة على انتزاع قرار المدينة من أيدي العملاء .
إن معركة تعز، في جوهرها، هي معركة وعي. واختبار لإرادة شعب يعرف أن قيوده ليست من صنع ضعفه، بل من صنع أعداء حريته. والانتصار فيها لن يأتي بمعجزة، بل سيكون ثمرة لإصرار جماعي على كشف اللعبة، ورفض الدور المُحدد سلفاً لهم كضحايا صامتين. فحينما تنجح تعز في فضح هذه الإستراتيجية التدميرية، وتعيد الأمور إلى نصابها الصحيح من خلال إرادة أبنائها الواعين، فإنها لا تنقذ نفسها فقط، بل تقدم درساً للعالم أجمع في كيف تكون الإرادة الشعبية أقوى من كل مخططات التقسيم والإرتهان.