كتب/د .عيدروس نصر
تأخرت في مناقشة ما ورد في حديث الزميل النائب عبد العزيز جباري خلال لقاءاته مع الإعلامية (الناصرية سابقاً) رحمة حجيرة، من خلال برنامجها "حكايتي" وكنت منتظرا استكمال الحلقات الأربع التي قالت صاحبة برنامج "حكايتي" أنها تدوين لذكريات الزميل النائب عبد العزيز.
لم تختلف "حكاية" عبد العزيز، عن سائر مقابلاته ولقاءاته السابقة وتصريحاته وما بدا منه من مواقف تجاه العديد من القضايا الوطنية في الشمال والجنوب.
ولأن المسألة هي مجرد "حكاية" فليس بالضرورة أنَّ كل ما يأتي فيها هو الصواب أو بعضٌ من الصواب، فلكلِّ "حكايةٍ" حَكَّاءٌ، ولكل حَكَّاءٍ هدفٌ وغاية، مثلما لكل حكاية وحكَّاء أخطاء وهفوات ونجاحات وإخفاقات.
* * *
في "حكايته" بدا الزميل البرلماني عبد العزيز جباري، الذي حظي بما لم يحظَ به أيٌ من زملائه من المناصب والألقاب وقرارات التكليف والتعيين، وقابلها جميعاً بالتمرد والتنقل من المنصب إلى نقيضه، ومن الموقف إلى ضده، أقولُ بدا كعادته متبرأً من البحث عن الحقيقة والغوص في أعماق الظواهر والتعقيدات وخلفيات المشهد السياسي والتفاعلات الاجتماعية والتاريخية المتصلة بهذا المشهد بما فيها من جوانب مشرقة وما يكتنف بعضها من مثالب وعيوب وانحرافات، وخصوصاً عند ما بدأ الحديث عن الجنوب وزيارته الأولى لعدن ورؤيته للأوضاع في الجنوب خلال فترة ما قبيل العام 1990م وما بعدها.
وفي الحقيقة أن واحداً من أسباب تأجيلي نشر هذه الخواطر والتعليقات على كلام الأخ عبد العزيز كان انتظاري لتقييمه للقضية الجنوبية، بعد اندلاع ثورة الحراك السلمي الجنوبي، وبعد الغزو الثاني للجنوب، وبعد انتصار المقاومة الجنوبية في تحرير الجنوب وتحويله إلى وطنٍ بديلٍ لكل أركان الشرعية (اليمنية) ومعها فوق الستة مليون نازح بين نازحين مدنيين ونازحين مسلحين وسياسيين بما في ذلك من كانوا في صف الغزاة مرتين (في العامين 1994م و 2015م) لكن طرفي الحوار (الحكاية) اكتفيا بأقل من خمس دقائق للحديث عن القضية الجنوبية، من كل الحلقات الأربع، كرساها للحديث عن لجنة المناضل سالم صالح محمد الذي قال عبد العزيز أن خطابه في اجتماع اللجنة في كلية الشرطة كان عرضةً لسخرية بعض الحاضرين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.
وبالعودة إلى كلامه في الحلقة الأولى من (حكايته) وبداية حديثه عن الجنوب وعن زيارته الأولى لعدن قبيل العام 1990م، يقول الزميل عبد العزيز: لم نشاهد سوى قبور الشهداء والشعارات الاشتراكية المتطرفة والبؤس، حتى يقول "لم نجد مطعماً نأكل به" ولا أدري كيف عاد حياً بعد (رحلة الجوع) هذه؟.
ويستمر في حديثه عن مشاهد البؤس والجراح، وتظل شماعة 13 يناير هي المعزوفة السهلة والمفضلة عنده كما عند الكثير من الساسة الشماليين الذين يختصرون كل التاريخ الجنوبي في 13 يناير، رغم مئات الينايرات التي شهدتها اليمن وبعضها يتواصل لعقود كاملة، لكن يناير الجنوب له طعمٌ مميز عندهم لا يستطيعون التغني بسواه.
من الطبيعي أن لا ننتظر من الزميل "أبو وليد" تقييماً علمياً أو حتى سياسياً محايداً وموضوعياً للمشهد الذي رآه في العام 1989م فهو لا يمتلك القدرة السياسية ولا الإمكانيات التحليلة العلمية ولا حتى الخلفية المعرفية التي تؤهله لقراءة الظواهر واستبطان حقائقها المعقدة وخفاياها غير المرئية، فهو كان يبحث عن مطعم، ولم يجد مطعماً، وكأنه أراد أن يقول إن حتى المطاعم في عدن لم تظهر إلا مع "دولة الوحدة" وأن أهل عدن والجنوب، لم يكونوا يأكلون "كما يروج كثيرون من الساسة والإعلاميين الشماليين، ومنهم برلمانيون ومن أنصار الشرعية، مثل ذلك النائب الذي قال إن الجنوبيين لم يعرفوا السمك إلا بفضل "الوحدة المباركة".
وحينما توجهت الصحفية سؤالها عن تذمر الناس في الجنوب مما تلى العام تسعين من سياسات، يتهرب عبد العزيز من الرد بحجة أنه لا يتدخل في المواقف السياسية وأنه يوصِّف الوضع الذي شاهده بعينه في مرحلة معينة من المراحل، أي أن قضايا الناس ومصالحهم ومشاعرهم وتضررهم وآلامهم وعذاباتهم أو حتى فرح البعض واستفاداتهم من حدث العام 1990م، لا تدخل في اعتبار القائد السياسي ومؤسس أحد الأحزاب اليمنية الجديدة، فربما كان البحث عن مطعم هو كل ما كان يشغل هواجسه.
وبنفس التسطيح يمضي الزميل جباري في حديثه عن "الوحدة اليمنية" فهو أولا لا يقول لنا ما هي الوحدة اليمنية التي يتحدث عنها، وما أهداف هذه الوحدة وغاياتها، وما وسائل وأساليب تحقيق هذه الأهداف إن وُجِدت، وقد سبق وإن قال : "إنه حدث تاريخي ومنجز تاريخي للشعب اليمني، ولا يوجد من لم يفرح بهذا الحدث"، لكنه يستمر وعلى نهج معظم القادة السياسيين الشماليين، في تصوير أن الجنوبيين كانوا وحدويين أكثر من الشماليين، وهي حديثُ حقٍ يراد بهِ باطلٌ، فيقول إن الجنوبيين وصل بهم الأمر "إلى درجة إنه أي سياسي في الشمال كان يعمل ضد الوحدة كانوا يقتلوه. . كانوا يصفوه".
وفي الحقيقة أن هذه الجزئية تستدعي من المؤرخين والمتتبعين بدقة لقضايا الصراع السياسي في اليمن أن يفندوا ما تتضمنه من تهمةٍ خطيرة حتى وإن ألبسها صاحبها لباس المديح المقزز، بالنظر إلى ما قد تتضمنه من تزوير يخفي ما ورائه من النوايا غير الحميدة للزميل جباري، لكن المأخذ المكشوف والمشهود لكل ذي عينين أن النائب متعدد الألقاب قد حصر ظاهرة الاغتيال السياسي في الصراع بين الشمال والجنوب (أو لنقل بين النظامين) في معلومة غير مؤكدة وغير مبرهنة، وربما زائفة ومصطنعة من قبل مطابخ صناعة الدسائس، وقفز على عشرات الشهداء الجنوبيين الذين اغتالتهم سلطات صنعاء من القادة الجنوبيين، بدءاً بمحاولة اغتيال المناضل التاريخي الأستاذ عمر الجاوي، وسقوط زميله الشهيد الدكتور حسن الحريبي وليس انتهاءً باغتيال الشهيدين ماجد مرشد وهاشم العطاس وغيرهم من الشهداء الذين يتجاوز عددهم 156 شهيداً اغتالتهم سلطات صنعاء وأجهزتها الأمنية، ليس لأنهم مع الوحدة أو ضدها، ولكن لأنهم من أصلب وأشجع القادة الجنوبيين.
إن هذه القضايا لا تهم العزيز عبد العزيز، لأن ضحاياها من (الأشرار الجنوبيين) الذين هم في نظر الكثير من الساسة الشماليين أشبه بالزوائد الدودية يظل استئصالها واجباً والسكوت عن هذا الاستئصال فضيلة تستحق الإشادة.
وعودةً إلى حديث الزميل جباري عما شهده في العام 1989م، وانحصاره في البؤس والشعارات التسلطية كما وصفتها المذيعة، وقبور الشهداء، نقول أن انحصار بحث الزميل جباري عن مظاهر الترف والرفاهية، التي لم يعثر عليها، لم يمكنه من الذهاب إلى المستشفيات والعيادات الطبية التي يزورها آلاف المرضى ويتحصلون فيها على كامل الرعاية الصحية النوعية والمجانية؛ ولا إلى المدارس والجامعات والأقسام الداخلية التي يأوي إليها مئات الآلاف من التلاميذ والطلاب الذين يحصلون علي التعليم والغذاء والسكن وفلوس الجيب وفقاً لقانون التعليم الذي يلزم الأهالي بعدم حرمان أبنائهم وبناتهم من التعليم حتى وصولهم إلى الجامعات، ولا أستبعد أن يعتبر زميلنا العزيز هذه من مظاهر البؤس والتسلط.
لكن أكثر أحاديث الزميل فجاجة كان قوله إن المواطنين الجنوبيين يعتمدون على الدولة في كل شي، ولا أستبعد أن يعتبر هذا أيضا من مظاهر التسلط والاستبداد، فيقول" وأكثرهم (أي الذين يعتمدون على الدولة في كل شي) غير منتجين لا ينتجون شيئاً".
في الحقيقة إن مناقشة الكثير من الساسة الشماليين، بمنطق الأشياء الموضوعية يمر بصعوبات كبيرة؛ فما يراه المنطق الاعتيادي وحتى الشكلي صوابا، يعتبره بعض القادة الشماليين خطأً وعيباً، بل وجريمةً، والعكس بالعكس، فهناك من يرى التعليم الإلزامي للأجيال استبدادا وتسلطاً، ويعتبر الرفاهية (النسبية) التي عاشها المواطنون الجنوبيون والتي "يعتمد بها المواطنون على الدولة حسب منطق الأخ جباري" من خلال الرعاية الاجتماعية والخدمات المجانية (الصحية والتعليمية) عبثا ودلالاً فائضاً عن الحاجة لأن المواطنين الجنوبيين لا ينتجون، وهناك من يرى حمل السلاح والاتجار به في أرقى شوارع عدن مكسباً وطنياً لأنه يدل على الرجولة والشراسة، وتحريم حمل السلاح في المدن تسلطاً واستبداداً، وهناك من يرى أن استدعاء الوجهاء القبليين المذنبين أو المتهمين بجرائم عبر مراكز الشرطة والأمن إهانة وتطاول على المركز الاجتماعي لهؤلاء، الذين قد يكونون من المجرمين؛ وتلك هي الفوارق الثقافية التي نتحدث عنها عند مقارنة العقليات التي نشأت في ظل دولة (القبيلة) والثقافة التي تصنعها دولة النظام والقانون.
سيكون من الصعب علينا أن نقنع أمثال الزميل جباري، أن الجنوب لم يكن يعاني من البطالة، وأن المصانع ومزارع الدولة والمزارع الجماعية، والتعاونيات الزراعية والسمكية والاستهلاكية والخدمية والمدارس والكليات الجامعية والمستشفيات والمراكز الصحية والمجمعات الاستهلاكية ومرافق الخدمات، والشركات الحكومية فضلاً عن المؤسسات التنفيذية والقضائية والأمنية والعسكرية كانت تستوعب أكثر من مليون عامل وموظف وإداري ومعلم وطبيب وممرض وأستاذ جامعي وعامل وعاملة خدمات وجندي وضابط، وقاضي ووكيل نيابة، وكل هؤلاء ينخرطون في عملية إنتاجية وخدمية متناسقة يكمل بعضُها بعضاً، وتصب في مجرى العمليات الإنتاجية والخدمية التي قال زميلنا عن أصحابها لا ينتجون شيئاً.
لن أتوقف مطولا عند حديث الزميل "أبو وليد" عن الثورة الشبابية السلمية، وخلفياتها وتداعياتها ومآلاتها، ولا حديثه عن الجماعة الحوثية، وانقلابها علي الثورة والجمهورية والشرعية، فالتسطيح كان حاضراً، وقد توقف عندها الزميل مثل كل القضايا التي تناولها كقصص متتالية منفصلة عن بعضها وعما ورائها من خلفيات وعوامل اجتماعية وسياسية وأسباب وجذور اقتصادية وثقافية، وتفاعلات واعتمالات ذات أبعاد تاريخية ليست دائماً بادية للجميع،
وبرغم انتقاده المخفف لبعض منهاجيات نظام علي عبد الله صالح لكنه عاد وقال إنه لو عاد به الزمن إلى الوراء لن يقف مع الثورة الشبابية السلمية، ولم يقل: هل كان سيقف مع من قتلوا الشباب في جمعة الكرامة وموقعة بنك الدم، وسائر الاعتداءات التي سقط فيها مئات الشهداء وآلاف الجرحى كما لم يقل لمتابعيه لماذا سقطت الثورة الشبابية السلمية، ولم يكشف عن خلفيات وأسباب التحالف بين علي عبد الله صالح وجماعة الحوثيين، ولم يبين لماذا فشلت حكومة التوافق بقيادة الأستاذ المناضل محمد سالم با سندوة التي لم تتوافق على شيء؛ أما حربا العدوان على الجنوب في العامين 1994م، 2015م، وثورة الجنوب السلمية والمقاومة الجنوبية المسلحة التي حققت النصر الوحيد على المشروع الإيراني في البلد وفي عموم الوطن العربي، فلم يدر في بال المذيعة ولا الضيف التطرق إليها، فهي تتعلق ببلاد وشعب بعيدين عن هواجس واهتمامات ومشاغل الطرفين:.