كتب د. عبدالرزاق عبدالله البكري*:
إن ما تقوم به محافظة مارب من تعنّت ومكابرة في عدم إيداع عائدات النفط والغاز، وإيرادات المؤسسات المالية والخدمية التابعة لها في البنك المركزي في م /عدن، لم يعد مجرد مخالفة إدارية أو نزوة محلية؛ بل أصبح جريمة اقتصادية مكتملة الأركان، تضرب في صميم ما تبقى من استقرار العملة الوطنية، وتفتح الباب على مصراعيه أمام انهيارها وتآكل قيمتها حتى آخر قرش.
لقد أثبتت الوقائع أن مارب، وهي أغنى المحافظات اليمنية من حيث الموارد، تحتضن المصفاة ومحطات تصدير وبيع الغاز والنفط، وتتحكم في إيرادات بمليارات الريالات شهرياً، ومع ذلك ترفض الامتثال لقرارات صريحة صادرة من رئيس الوزراء، ورئيس مجلس القيادة الرئاسي، ومدير البنك المركزي الحالي ومن سبقه، تقضي بإيداع كل المبيعات في البنك المركزي بعدن. هذا التمرد المالي ليس بريئاً، بل هو جزء من لعبة سياسية واقتصادية لتجويع الشعب وإبقاء البلد رهينة لسياسات العبث والابتزاز السياسي القذر.
مارب اليوم لا تكتفي بالاحتفاظ بالريالات في مخازنها حتى ضاقت بها المساحات والاماكن لتخزينها، بل تهرع إلى الأسواق لشراء العملات الأجنبية بكميات مهولة،وبأي سعر كان، ما يرفع الطلب على الدولار والريال السعودي، ويقود تلقائياً إلى ارتفاع سعر الصرف وانهيار الريال اليمني أكثر فأكثر. هذه ليست تجارة عملة عابرة، بل مضاربة منظمة تستنزف السوق وتُغرق المواطن في موجات تضخم لا ترحم.
إن السلوك المالي لمارب يخلق اقتصاداً موازياً، غير خاضع لرقابة الدولة، يبتلع السيولة الوطنية ويحولها إلى كتل من العملة الصعبة المخزنة أو المهرّبة. وهو سلوك أشبه بما تقوم به شبكات غسل الأموال، لكنه هنا يتم برعاية سلطات محلية تتصرف وكأنها كيان مستقل، لا دولة داخل دولة، بل دولة على حساب دولة.
لقد حان الوقت لأن يواجه المجتمع اليمني، ومعه القوى الإقليمية والدولية بكل قوة، هذا العبث بقرارات حاسمة، وإجراءات اقتصادية صارمة، تبدأ من تجميد صلاحيات التحكم بالإيرادات في مارب، وتمر بإخضاع جميع المبيعات النفطية والغازية لسلطة البنك المركزي، وتنتهي بمحاكمة كل من يعبث بقوت الشعب وعملته الوطنية.
فالعملة الوطنية ليست رقماً في شاشات الصرافين، بل هي شريان حياة، وحين يُقطع هذا الشريان بمضاربات مارب ورفضها الانصياع لقرارات الدولة، فإن النتيجة الحتمية هي مزيد من الفقر والجوع، وانهيار ما تبقى من كيان اقتصادي كان يوماً قادراً على الصمود. وبذلك سيساهم بعودة انهيار الريال اليمني وارتفاع العملة الصعبة مالم تضع حلول لهذا العبث والنهب المنظم للاموال، ووضع حد لرفض قرارات السلطات والانصياع لها.
... أين تكمن المشكلة اقتصادياً؟..
حين تُحتجز الإيرادات العامّة (نفط/غاز/مؤسسات محلية) خارج قنوات البنك المركزي، تبقى السيولة بـالريال محلياً بلا منفذٍ مصرفي منضبط، فتتكدّس نقداً، وتتحوّل لطلبٍ مباشر على الدولار/الريال السعودي (للاستيراد والادّخار). هذا يخلق:
1. ضغط طلبٍ على العملات الأجنبية= ارتفاع سعر الصرف.
2. انتقال ارتفاع الصرف إلى أسعار السلع (غذاء/نقل/طاقة)= تضخم.
برأيي اضع اربع توصيات ومقترحات واصلاحات عملية..
1. فرض الإيداع المركزي لإيرادات النفط/الغاز وكبرى المؤسسات وربطها الكترونياً بحسابات «المركزي» (تفعيل ما تؤكده قرارات/اجتماعات الإيرادات). يُقلّص السيولة المكدّسة ويسدّ منافذ المضاربة.
2. تعزيز مزادات النقد الأجنبي بشفافية مع أولويات للاستيراد الحيوي (قمح/وقود/دواء) وتنسيق أوثق مع جهات المانحين. بيانات المزادات تُظهر أثرها الفوري على تهدئة السوق حين تُدار جيداً.
3. تحسين الإفصاح العام : نشر أرقام الإيرادات شهرياً حسب المحافظة وقائمة التحويلات إلى «المركزي» سيقلّص عدم اليقين ويكبح الشائعات والمضاربة.
4. تنسيق السياسة التجارية مع النقدية: مراقبة هوامش التسعير وربطها بحركة الصرف (نموذج «سقف سعري متحرّك» للسلع الأساسية)، إذ أظهرت التقارير حساسية أسعار الدقيق/الغذاء لحركة الدولار
*باحث سياسي وأكاديمي