تعتبر النورة من الحرف التقليدية القديمة والشاقة المحفوفة بالمخاطر وتحتاج إلى القوة والصبر والملاحظة المستمرة وقد مارسها الأجداد والآباء لتوفير لقمة العيش عن طريق كسب الرزق الحلال مهما كان متعبًا وشاقًا. والنورة هي المادة المستخرجة من حرق الأحجار الجيرية في أكواخ خاصة مبنية من الطين تعرف ب (الميافي) أو ( الأكيار) وتتحول هذه الأحجار بعد إحراقها إلى مسحوق أبيض يستعمل في تزيين المآذن والمباني كما أن لها استخدامات أخرى ..
وعندما يتحدث الناس في المجالس العامة بمدينة جعار عن هذه الحرفة سرعان ما يتبادر إلى أذهانهم اسم العريقي الرجل الذي كان بارعًا في صناعة النورة وهو صاحب السيرة التي سنتناولها في هذه الحلقة.
ولد محمد مقبل ثابت العريقي في قرية الأحقاف . الأعروق . تعز عام ١٩١٧م وتعلم القراءة والكتابة والقرآن الكريم فيها، غادر مسقط رأسه في أوائل الأربعينيات وهو في ريعان شبابه إلى عدن وكانت منطقة حجيف أشهر مناطق المعلا هي محطته الأولى إذ كانت هذه المنطقة مقرًا لعمال البواخر وشيد فيها الإنجليز أول محطة كهرباء بخارية في اليمن ومخازن الفحم ومحاريق النورة و ورش لإصلاح السفن وبقي فيها لعدة سنوات عاملًا متواضعًا على بواخر ميناء عدن ثم غادرها إلى أبين أواخر الأربعينيات حيث أستقر في مدينة جعار مزاولًا مهنة الخياطة ثم أحترف صنعة النورة وقد أفتتح أول معملًا متواضعًا له تحت جبل خنفر شرق المدينة في بداية الخمسينيات ثم أنتقل إلى طرف المدينة الجنوبي المكان المخصص لأفران صناعة النورة والياجور وسمي هذا المكان بالمحراق بسبب وجود هذه المحاريق فيه وكانت تخص ثلاثة أشخاص هم : حسن محمد مظفر والعريقي القادمين من عدن وبارعيدة القادم من حضرموت . ونتيجة لتزايد الطلب على النورة ترك الخياطة واستمر هو وأولاده الكبار في صناعة النورة والتي كان يعتمد عليها الناس بشكل أكبر في بناء المنازل بخلط هذه المادة مع النيس والاسمنت لتلبيس جدران المباني وتزيينها من الداخل والخارج ..
في بداية السبعينيات نقل معمله إلى منطقة عبر عثمان نتيجة لمضايقة الناس من الدخان الخارج من الكير، وبُعده عن موقع الأحجار المستخدمة في استخراج النورة، والحطب الذي يستخدم كوقود لحرق هذه الأحجار .. وقد ذاع صيته في هذه الحرفة مما أدى إلى زيادة الطلب عليها وأصبحت تورد إلى أماكن بعيدة خارج نطاق دلتا أبين كلودر وعدن ولحج والحبيلين وغالبية البيوت التي شيدت في إطار مناطق خنفر منذ الخمسينيات وحتى بداية الثمانينيات طُليت جدرانها من نورة العريقي الشهيرة ..
كان رحمه الله رجلًا عصاميًا طيبًا، مرحًا رحيم القلب، يسعى دائما لفعل الخير مما جعله يكسب ود وتقدير واحترام جميع الناس في هذه المدينة.
يعتبر العريقي طيب الله ثراه من أعلام مدينة جعار المشهورين واحد ساكنيها القدماء وأهل هذه المدينة خاصة كبار السن يعرفونه معرفة تامة وتربطهم به علاقة قوية مبنية على أساس التعامل الصادق والاحترام المتبادل، وأرتبط بعلاقة صداقة مع شيوخ وأعيان وتجار جعار وكان من أبرز أصدقائه الشيخ محمد علي المنصب أول مديرًا لبلدية جعار والحاج أحمد عوض الخريبي والشيخ محمد عبده المطري والحاج صالح شعتل والسيد يحيى النعمي وعبد الغني إبراهيم من أوائل الفرانين في جعار وأبو محمد سعيد الشيباني صاحب أشهر محل للعطارات في المنطقة الذي لايزال قائما حتى يومنا هذا وآخرين رحمهم الله جميعًا وأسكنهم فسيح جناته..
وهو أبو الشهيد عثمان العريقي الذي أستشهد في إحدى المظاهرات الطلابية التي خرجت تجوب شوارع مدينة جعار تهتف برحيل الاحتلال البريطاني وفي هذا اليوم الموافق تاريخ 17/2/1967م قام أحد الجنود البريطانيين برمي قنبلة وسط المتظاهرين أصابت شظاياها بطن الطالب عثمان وأمسك بيده على بطنه حتى وصل إلى بيتهم وقام أبوه بإسعافه إلى عدن لكنه فارق الحياة على إثر هذه الإصابة البليغة في اليوم نفسه . وسميت المدرسة التي خرج متظاهرًا منها باسمه حتى عام ١٩٩٤م تم تغييرها إلى اسم آخر .
وقد تزوج اثنتين الزوجة الأولى في مسقط رأسه وأنجب منها بنتين في قريته قبل أن يغادرها إلى عدن كما أنجب منها ولد وبنت بعد أن جيء بها إلى أبين وتزوج الثانية في جعار وأنجب منها (٤ ) ذكور و ( ٤) إناث وله من الزوجتين (٢٥ ) حفيدًا و(٤٩ ) سبطًا.
أنتقل إلى جوار ربه عام ١٩٧٧م بعد أن أصيب بالشلل وقد أوصى أولاده بأن يدفن في منطقة عبر عثمان بالقرب من مكان عمله لحبه الشديد لهذه المهنة التي أحترفها كما دفنت من قبل زوجته الأولى في نفس المكان . واستمر من بعده في هذه الحرفة أولاده حتى بداية التسعينيات توقف نشاطهم الذي بدأ فيه أبوهم منذ بداية الخمسينيات نتيجة لعوامل التطور وظهور مواد صناعية بديلة عن النورة.
/خالد البديلي