آخر تحديث :السبت-31 مايو 2025-01:17ص
وثائقيات


من هو الحكيم الزراعي الحميد بن منصور؟

من هو الحكيم الزراعي 
 الحميد بن منصور؟
الخميس - 15 مايو 2025 - 03:10 ص بتوقيت عدن
- أبين تايم/ متابعات

كتب/د.علي صالح الخلاقي:

مما لا شك فيه أن الحكيم الشهير الحميد بن منصور كان مزارعاً يمنياً ارتبط بالأرض وبحرثها وتقليب تربتها وزراعتها، وعاش حياته في منطقة ريفية زراعية في شرق اليمن، في زمن انعدم فيه التدوين لحياة بسطاء الناس أو لمناقبهم وأشعارهم، وقد أخذت أشعاره وأقواله تتنقل في حياته شفاهة بين الناس من منطقة إلى أخرى، فأقبل المزارعون على تلقف تلك الأقوال والأشعار لارتباطها الحميم بحياتهم ولما فيها من الحكم والنصائح والعبر التي لا غنى لهم عنها، فحفظوها وتناقلوها ورددوها في أثناء عملهم في حرث الأرض وزراعتها وفي حياتهم اليومية بشكل عام دون حاجة تستدعي منهم ضرورة التحقق من شخصية قائلها وأصله ونسبه، لأن ما يهم الفلاحين هي تلك الأقوال والحكم التي استأثرت على لبهم وعقولهم وعبرت عما يجيش في خواطرهم وصوَّرت أحاسيسهم ولامست مشاعرهم ونقلت تجاربهم في أقوال مسبوكة محكمة اللحن فحفظوها ورددوها. وبمرور الأيام وتعاقب السنين نسجوا على منوالها الكثير من الأقوال التي أبدعها مزارعون كثيرون وبلهجات مناطق مختلفة ونسبوها إلى ما تراكم وانتشر من أقوال الحميد، ومن هنا سِرُّ اختلاف صيغة الأقوال بين منطقة وأخرى، بحيث نجد الحميد في لهجة الكثير من المناطق وكأن لكل منطقه حُمَيْدَهَا الخاص بها.

مسقط رأسه:

لا نعرف بالضبط مسقط رأس الحميد ولا الزمن الذي عاش فيه، ولا تسعفنا المصادر التاريخية في شيء. ولشهرته الواسعة وانتشار حِكَمِهِ وأقواله نجد أن أكثر من منطقة داخل اليمن، بل وحتى خارجها، تدعي أنها مسقط رأسه وموطنه الأصلي الذي عاش فيه.

وهناك شبه إجماع في الروايات الشعبية ومن قبل الباحثين على أن موطنه الأصلي ينحصر في مناطق المشرق، ويظل الاختلاف في تحديد منطقة معينة بذاتها كمسقط لرأسه. عن ذلك يقول الدكتور عبد العزيز المقالح:" بعض الذين كتبوا عن الحميد بن منصور لا يذكرون إلاَّ أنه نشأ في المنطقة الشرقية، والمنطقة الشرقية من البلاد تمتد من عمان إلى عدن"( ). أما عمر الجاوي فيرى أنه مزارع من شرق مدينة البيضاء كما يبدو من أحكامه ومن التسميات التي أوردها( ). ويتفق آخرون مع هذا الرأي إذ يرون أنه سكن أسفل منطقة سرُوم بين البيضاء ومنطقة خورة( )، وهناك من يذكر أن الحميد بن منصور يرجع أساساً إلى أسرة بني هلال وموقع سكناها تحديداً في "مرخة" ناحية من نواحي شبوة حالياً. وقد تنقلت أسرته في المناطق اليمنية وسكنت في كثير من المناطق اليمنية فيما بعد، منها قرية "منكث" ناحية من نواحي يريم، ومنها منطقة تسمى "الهَجَرْ" غربي قرية "المضبي" عند أهل برمان من قبائل آل حميقان، ناحية الزاهر، محافظة البيضاء حالياً( ). فيما يذكر آخر ون أن موطن الحميد بن منصور هي منطقة "بُور" الواقعة في الوادي الرئيسي بين مدينتي تريم وسيئون في حضرموت وأنه انتقل فيما بعد إلى "رداع" في شمال اليمن من جراء إذلال الأقرباء له( ). ووفقاً للروايات الشعبية المتداولة فأن الكثير من المناطق التي تنتشر فيها أقوال الحميد على ألسنة الكبار والصغار تدعي كذلك أنها مسقط رأس الحميد بن منصور وموطنه الأصلي، وهي تحفظ أقواله وتتناقلها وترددها بلهجتها المحلية التي تتميز عن لهجة غيرها من المناطق الأخرى، بما في ذلك الأقوال ذات الخصوصية المحلية التي تنسب إلى الحميد وتجعل كل منطقة منها حجة لها في ادعائها بأحقية نسب الحميد بن منصور، ولهذا يصح ما قال عمر الجاوي:" إن الشعب اليمني أراد أن يجعله من كل منطقة، فبعضهم يقول أنه عوذلي والآخر من رداع أو إب أو الحجرية"( )، ويمكن إضافة مناطق أخرى عديدة استناداً إلى الأشعار المنسوبة إليه من حضرموت ومروراً بشبوة ومأرب وأبين والبيضاء وحتى يافع والضالع وردفان وأجزاء من إب وتعز وغيرها. وهناك روايات متداولة لدى كبار السن أنه قد عاش في "منكث" بالقرب من "سحول ابن ناجي" في منطقة إب، كما يذكر في أقواله أن بلاده خلف ردمان، وأن له أرض "مَقَاسم" في ردمان.

وفي تقديري أنه لا عجب ولا غرابة أن تدعي أكثر من منطقة في اليمن أنها موطن الحكيم والخبير الزراعي الحميد بن منصور ومسقط رأسه ومرابع صباه وميدان عمله وحياته التي كرسها للأرض المعطاءة بالخير الوفير وعبر عن حبه لها في أقواله وحكمه الشهيرة التي أصبحت لسان حال المزارعين ومادةً خصبة لأناشيدهم ومواويلهم المفضلة التي يتغنون بها وهم منهمكون في فلاحة الأرض وزراعتها.

نسبه

مثلما يدور الخلاف والجدل حول مسقط رأس الحميد بن منصور وموطنه الأصلي، فأن ذلك الخلاف يمتد ويتشعب حول نسبه. والحقيقة أننا لا نعرف الكثير عنه وعن عائلته التي يحيطها الغموض، ولا نعرف سوى اسمه واسم أبيه فقط. ومن الحكايات التي تروى عنه ومما ورد في أقواله نعرف أيضاً اسم أمه "غزال" واسم زوجته "مُقبلة بنت مقبل" واسم ابنته "بَدْرَة" واسم ابنه"محمد" و"سالم" وربما كان له غيرهم من الأولاد والبنات، حسب ما نستنتج من أقواله التي ضمنها وصايا ونصائح للأبناء، أو في قوله (يا ليت أنا مُوت وأحيا، واعَايِنْ الخلف بعدي، هم مثلي أو خير مني) والخِلْف هم الأبناء الذين يفكر بمصيرهم وما سيكون عليه حالهم بعد موته أو في حكايته مع أولاده الثلاثة.

ومن المراجع القليلة المتاحة والروايات المتناقلة فأن الحكيم الحميد بن منصور ينتسب إلى قبائل بني هلال، وينسبه بعضهم إلى قبيلة بني عامر والذي تُنسب إليهم القبائل الهلالية( ). وفي هذا الصدد يذكر علي بن أحمد العطاس أن الحميد بن منصور ينتمي إلى "بني سهل" أو "بني سعد" من "بني هلال" الذين اشتهروا منذ القدم بشعرائهم، فيما ينسبه البعض إلى قبيلة "باجري" الحضرمية( ). أما المؤرخ أحمد بن حسن العطاس في "رسالة الأنساب " فيذكر أن النسيئيين بحضرموت منسوبين إلى الحميد بن منصور وأن الحميد بن منصور توفي باليمن وأن قبره برداع( ). ويبدو أن الحميد بن منصور قد عاش جزءاً من حياته في منطقة رداع ذات الأراضي الزراعية الخصبة بدليل وجود (نُوبة) صغيرة باسمه في أحسن قطعة أرض في ناحية السوادية القريبة من رداع، ويقال إن تلك العمارة كانت مأوى الحميد بن منصور( ).

عصره

قد نجد في الأقوال المنسوبة إلى الحميد ما يلمح إلى موطنه أو يذكر المناطق التي تنقل فيها للعمل أو العيش، لكننا لا نجد فيها ما يشير إلى زمن حياته ولا تسعفنا أقواله في تحديد عصره لأن أقواله عبارة عن حكم زراعية تدور حول حب الأرض والإنتاج والمواسم الفلكية وتحث على حب العمل، دون أن تتعرض للأحداث التاريخية أو السياسية التي قد تساعد في معرفة شيء ما عن عصره. وهناك من يعتقد أن عصر الحميد يعود إلى ما قبل الإسلام وحجتهم في ذلك مخاطبته للثريا بقوله (يا غارتاه يا ثريا مواسم الصيف فاته) وهي حجة ضعيفة في تقديري، لأن الفلاحين في ربوع اليمن لا زالوا حتى اللحظة يعتمدون في كثير من المناطق على النجوم ويقيسون عليها كل المواسم الزراعية. وهناك من يرى أنه يعود إلى العصر الإسلامي، دون تحديد دقيق أو تقريبي للقرن الذي عاش فيه، وهو رأي يقارب الحقيقة. وممن ذكروا العصر الذي عاش فيه الحميد ابن منصور المؤرخ محمد علي بن عوض باحنان حيث يعتبره من أهل القرن السابع، ويضعه مع الحكيم أبو عامر أول من عُرف من قدماء الحضارم من شعراء العامية أو الشعر الدارجي وذكر أنه أورد نزراً يسيراً من أشعارهما وأخبارهما في كتابه "تاريخ الأحقاف"( ). ومثله يذهب على بن أحمد العطاس إذ يشير إلى أنه عاش في القرن السابع الهجري/الرابع عشر الميلادي. أما الشاعر الحضرمي "أبو بشر" فيرجعه إلى وقت متأخر وتحديداً يذكر أن زمن حياته كان أواسط القرن الثامن عشر الميلادي( ). أما الباحث الروسي أغاريشيف الذي جمع أحكام علي بن زايد، فيذكر أن الحميد بن منصور قد عاصر علي بن زايد وكان صديقاً له، ويعتقد أنهما عاشا على الأرجح في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي. ومما تقدم نرى اتساع شقة الخلاف في تحديد عصر الحميد بن منصور وزمن حياته، ومثل هذا الخلاف نجده في تحديد عصر أمثاله من الحكماء كعلي بن زايد وأبو عامر وغيرهما.

والحقيقة أن أقوال الحميد بن منصور أكثر شهرة وأوسع انتشاراً في أرجاء كثيرة من اليمن ومحيطها، من أقوال علي بن زايد وأبو عامر وشَرْقة وغيرهم، حيث تنتشر أقوال الحميد في مناطق مأرب والبيضاء وكافة المناطق الجنوبية والشرقية مثل شبوة وحضرموت وأبين ويافع والضالع وردفان وفي أجزاء من تعز وإب وغيرها، بينما نلاحظ أن المناطق التي يتردد فيها ذكر ابن زايد تنحصر في "القسم الأوسط من اليمن بشكل خاص في سلاسل الجبال والقرى المحيطة بمدن صنعاء ،ذمار،ويريم"( ) وفي أجزاء أخرى قريبة من هذا المحيط. وعن شهرة الحميد الواسعة يقول الباحث الروسي م.رودينوف " إن الحميد بن منصور أكثر شهرة في شمال اليمن من علي بن زايد في حضرموت، ولم يستطع أحد ممن تحدثوا إلينا أن يتلو من الذاكرة أشعار الأخير، ولم يكن حتى اسمه معروفاً للغالبية"( ). ومثل هذا الجهل باسم ابن زايد يشمل تقريباً كل المناطق الشرقية والجنوبية التي لا يعرف الناس فيها غير الحميد وأقواله، ولا يُعرف عن علي بن زايد إلاَّ مما يُنشر عنه عبر وسائل الإعلام خلال العقود القليلة الماضية. وقد سألت العديد من كبار السن من مناطق يافع والبيضاء عما إذا كانوا قد سمعوا بعلي بن زايد أو يعرفون شيئاً من أقواله فكانت إجاباتهم بالنفي. وفي موضوع تحت عنوان "أغاني الفلاحين في محافظة لحج- المرتفعات الجبلية" كتب الباحث محسن أحمد لصور:" أن الأغاني الخاصة بالحراثة عادة ما تكون أبياتها الشعرية على لسان الحكيم اليماني الحميد بن منصور وهو الشخصية الفلاحية المشهورة في هذه المنطقة وليس علي بن زايد كما يقال"( ).

ورغم أن الحميد بن منصور أكثر شهرة وتتردد أقواله وما ينسب إليه في مناطق أكثر من تلك التي تنتشر فيها أقوال ابن زايد، إلاَّ أنه لم ينل ما يستحقه من دراسة أو اهتمام، ولم يبادر أحد من قبل إلى جمع أقواله في كتاب، على عكس علي بن زايد الذي حظي بدراسة من قبل الباحث الروسي أناتولي أغاريشيف الذي جمع أقواله أواخر الستينات من القرن الماضي وصدرت في كُتيب صغير في موسكو عام 1968م بعنوان "أحكام علي بن زايد" وفي تقديري أن هذا الكُتيب قد حقق لعلي بن زايد، خلال العقود القليلة الماضية، شهرة بين الكتاب والباحثين وفي أجهزة الإعلام فاقت شهرته الحقيقية في الواقع بين الفلاحين مقارنة بمكانة الحكيم الحميد بن منصور الذي تظل شهرته واسعة في صفوف المزارعين وتتردد أقواله على ألسنتهم في نطاق أوسع من البلاد.

ومن الواضح أن الباحث الروسي أغاريشيف قد ضمن بعض أقوال الحميد بن منصور وغيره ونسبها في كتيبه لعلي بن زايد، حيث اعتمد في جمع تلك الأقوال على مثقفي المدن ممن لا دراية لهم بحقيقة هذه الأقوال. وهذا ما تنبه له د. عبدالعزيز المقالح وأشار إليه بقوله:" كان لا بد للمستشرق الروسي – وهو يجمع تراث علي بن زايد من شفاه بعض الفلاحين اليمنيين، ومدونات بعض المثقفين – من أن يقع في خطأ الجمع بين ما ينسب إليه وما ينسب إلى غيره من شعراء الأحكام، بل من الأغاني الشعبية أحياناً.. ولم يسلم من إيراد بعض الأحكام التي تؤكد من صيغتها أنها للحميد بن منصور، ومن هذا قوله:

لا حَول يا مالك الموت

ذي ما نِجي منك هارب


حُمَيْدْ قد جا المحَجَّهْ

والموت قد جا المقارب


ولعل اناطولي أغاريشيف- والكلام للمقالح- لم يسمع باسم الحميد بن منصور وإلاَّ لما أورد مثل هذه الأبيات له منسوبة إلى ابن زايد"( ). وأقول إن من يطَّلع على تلك الأقوال، يجد أن عدداً غير قليل منها، مع شيء من التحوير والتغيير، هي ذات الأقوال وذات الحكايات التي تتداول عبر عقود وربما قرون باسم الحميد بن منصور في مناطق كثيرة، وهو ما يحتاج إلى التدقيق والتمحيص من قبل الباحثين والمهتمين.

وحتى تلك الآراء التي تشير إلى أن علي بن زايد قد عاصر الحميد وارتبط معه بصداقة ودخل الاثنان في نقاش وجدال، لا نجد لها وجوداً في الأقوال المنسوبة للحميد في مناطق انتشاره الواسعة، والمصدر الوحيد الذي أشار إلى ذلك هو كُتيب أغاريشيف، ولو أسلمنا بصحة استنتاجاته لحق لنا القول أن الحميد بن منصور كان أقدم وجوداً من علي بن زايد بدليل أن الأخير يأتي على ذكر الحميد في أقواله أكثر من مرة، بينما لم يذكر الحميد قط علي بن زايد أو يجادله في أقواله.


#علي_صالح_الخلاقي

من كتابي ( الحكيم الفلاح الحميد بن منصور- شخصيته وأقواله)