/مذكرات كتبها الفنان المرشدي بخط يده
28 مايو,2012
مرحلة ريف أبين وحب السلطان والشعب
في أبين قابلت السلطان حسين بن عبدالله الفضلي نائب السلطنة الفضلية واصدر مرسوماً بتعييني مديراً لمكتبه.. وكان راتبي زهيداً حسب إمكانيات السلطنة.. وأوتيت سكناً مجاناً.. وعوضني الله بحب شعب المنطقة واستطعت في وقت قصير أن اكسب مودتهم جميعاً على اختلاف طبقاتهم بعد أن لمسوا فيّ ما يرضيهم في السلوك الإداري والعام, وكسبت في ذات الوقت حب السلطان وثقته فكان يعوضني من جيبه عند سفري إلى عدن في إجازة بعد أن لمس ضبط الإدارة وتقدمها وتنفيذ توجيهاته دونما نقصان.. وأتيحت لي لأول مرة فرصة القراءة, وفي هداة الليل ونقاء الهواء المنعش أتيحت لي أيضاً الفرصة لاستعرض أحداث حياتي الماضية كلها, كانت شريطاً طويلاً حافلاً بكل لقطات عمري صغيرها وكبيرها, أفراحها وأحزانها, وما أكثر الأحزان.. ومر عامي الأول في (أبين) حيث عقدت الأحداث معي لأول مرة, هدنة طويلة عشت فيها سعيداً بين أفراد الشعب الطيب الأصيل وقلما كنت أعود إلى مدينتي الشيخ عثمان لأن الطريق كان طويلاً وشاقاً يومها والسيارات الكبيرة الناقلة للبضائع كانت هي الوسيلة الوحيدة في المواصلات بين عدن وأبين.. وركوبها ولو في الأسبوعين مرة واحدة قد يسبب ضرراً لصحتي بسبب المطبات في الطريق الوعرة وخاصة إذا كان ساحل أبين في حالة المد.. وقضية المواصلات بين مستعمرة عدن والدويلات المجاورة أو بين الدويلات نفسها هي جزء هام من السياسة البريطانية (فرق تسد) كي لا يختلط الأخ بأخيه.. واذكر انه كان بيننا وسلطنة لحج مسافة نصف نهار بالسيارة حتى الخمسينيات عندما كنا نزورها بمناسبة مولد الولي المشهور (سفيان) وكانت موالد الأولياء في الماضي القريب مثل مهرجان كبير للفنون الشعبية بأنواعها, وكان الانجليز يشجعون هذه الموالد ويمنحون الموظفين إجازة من العمل كنوع من التنفيس للشعب.
الاستقالة من جديد
في العام (53) قررت الاستقالة من سكرتارية نائب السلطنة الفضلية, برغم شبه الاستقرار, وفيض كرم السلطان حسين بن عبدالله, وتكويني لصداقات كثيرة في أبين من أفراد الشعب والأمراء كون الوظيفة باللغة العربية إلا من بعض الشوارد إذا ما جاء الضابط السياسي الانجليزي المسئول عن المنطقة بدون مساعده الأستاذ أحمد محمد باشراحيل واسمه د. فوستر وأقوم بالترجمة البسيطة بينه والسلطان.. وعندما سنحت لي فرصة غياب الأستاذ باشراحيل لأكثر من شهر طلبني الضابط السياسي من السلطان للعمل في مكتبه على سبيل الإعارة, وحققت بعض الفائدة وطلبت منه شهادة على عملي معه, وكانت تعزيزاً لشهادة السلطان.
مدرس ومدير للنهضة
غادرت أبين وأخذت راحتي بعض الوقت وبدأت البحث عن عمل ومازالت الصعوبات قائمة في بلد يهيمن عليه الهندوك ويعطون الفرص لأبناء جنسهم, وبعد وقت عرض عليّ صديقي الأستاذ محمد سعيد مسواط الذي كان مديراً لمدرسة النهضة العربية في الشيخ عثمان أن التحق بالتدريس في المدرسة وقلت له: لا أعرف شيئاً عن التدريس فقال: لاتقلق سأعطيك ما تقرأ في هذا السبيل واتصلت بالأخوين الشهيد عثمان عبده محمد وعلي محمد عبدالله فأعطياني ما عندهما لخبرتهما الطويلة في هذا المجال.. والتحقت بالمدرسة باعتبار أنها محطة أخرى.. وطلب في وقت لاحق من الأستاذ محمد سعيد مسواط التفرغ للمؤتمر العمالي, وعينتني هيئة المدرسة مديراً بالنيابة.
زيارة السلطان وحكايته
فجأة في العام 56 زارني في بيتي السلطان عبدالله بن عثمان, سلطان أهل فضل, أبين بعد فترة من خلع السلطان حسين بن عبدالله الذي سبق لي العمل معه من منصبه من قبل الحاكم العام البريطاني لعدن السير توم هيكنبوثم وعين أخوه السلطان أحمد بن عبدالله خلفاً له كنائب للسلطنة الفضلية, وأنا مازلت أدير مدرسة النهضة العربية.. وقال السلطان عبدالله: لقد عزمت على مزاولة سلطاتي كسلطان واستفسرت أهل الرأي عندنا فأجمعوا عليك لمعرفتك بالمنطقة ومشاكلها , ولمساعدتي فيما عزمت عليه, واستفسرت منه عن أشياء في إنجاح ماعزم عليه لعلمي والناس جميعاً بهيمنة الانجليز على الدويلات كلها, بموجب المعاهدات الاستشارية المبرمة بين الطرفين وان ماعزم عليه السلطان عبدالله لايمكن له أين يكون دون موافقة الانجليز عليه, وقال السلطان: رجاء بعد ذلك سنفكر معاً, والراتب ؟ قال سأدفعه لك من راتبي كما تريد وطلبت منه شهراً واحداً لتقديم استقالتي من المدرسة.. تدعونا المناسبة لنبين للقارئ العزيز باختصار شديد جداً وضعية الحكم في السلطنة الفضلية والتي كانت خلافاً لما هو سائد في السلطنات الأخرى , التي فيها السلطان هو الحاكم المطلق في سلطنته, فالسلطان عبدالله بن عثمان كان في سلطنته مجرد رمز له راتبه, وله التحية من الجنود والاحترام من المواطنين, في حين يتولى مهام الحكم في السلطنة نائب السلطنة وهو بالطبع من البيت السلطاني.. وعندما كنت اعمل في سكرتارية النائب, كما سبقت الإشارة, كنت أظن أن هذه الوضعية متفق عليها في البيت السلطاني, ولم يكن يهمني من أمرها شيء, إلا أن حادثاً خطيراً وقع على النائب السلطان حسين بن عبدالله في العام 52 تكشفت بعده بعض الأمور وأثارت انتباهي, وأكدت أن ماهو قائم في هيكل الحكم قد فرضته الإدارة البريطانية وأكرهت السلطان عبدالله بن عثمان على القبول به, وما قيل من أسباب في ذلك لا يعقله عاقل ويطول شرحه.. والأهم هو أن خلق منصب نائب للسلطنة, وليس نائباً للسلطان سحب كل سلطات السلطان إلى النائب, وبقي السلطان عبدالله بن عثمان الملقب بـ(الأمر) أي صاحب الأمر, لا أمر له من شئون السلطنة صغيرها وكبيرها.
والحادث: أنني تلقيت إشارة من قرية (الوضيع) بأن أحد المواطنين ويدعى (الأحمدي) وهذا ما أذكر من اسمه , رفض تنفيذ حكم المحكمة القاضي بتسوية حدود الأرض بينه وبين جاره.. وعندما قرأت الخبر لنائب السلطان حسين غضب أشد الغضب ونادى الضابط (عوض سرور) وكان شجاعاً وشديداً, وذهبا معاً إلى موقع الأرض الذي يبعد كثيراً عن العاصمة, ووجد السلطان المواطن الرافض لحكم المحكمة, كما روى لي عوض سرور ضابط الأمن, واقفاً على الأرض ويرجو من السلطان حسين أن ينصفه من الظلم الذي وقع عليه من المحكمة وان لديه الحجج التي تثبت حقه في الأرض, وقال له السلطان: عليك بتنفيذ الحكم أولاً ثم استأنف ولكن المواطن, الأحمدي, ظل يجادل ويكرر ظلامته, فصفعه السلطان على وجهه, وعندما استدار ليصدر أمره باعتقاله, امتشق المواطن (الجنبية) من جرابها وطعنه في ظهره حتى كاد يقضي عليه لولا أن بادره الضابط (عوض سرور) بطلقة من بندقيته, ونقل السلطان حسين إلى مستشفى عدن لإسعافه, ونقل المواطن إلى مستشفى (المخزن) القريب من مدينة (جعار) وبعد أن أفاق السلطان في عدن طلبني بالمجيء إليه.. وبعدها اجتمع مجلس الدولة المكون من عقال القبائل الفضلية واتخذ قراراً بإعدام المواطن الذي يرقد في المستشفى وأبرق السلطان حسين بالقرار.. وقرأت له البرقية فقال: يا مرشد المجلس هذا منافق وما كان من حقي أن أصفع الرجل أمام الناس وهذا رجل قبيلي له كرامته وكان من الممكن حبسه ولكن تملكني الغضب لحاجته في تنفيذ القانون.. فأبرق على التو إلى المجلس بوقف تنفيذ القرار إلى حين وصوله إن شاء الله إلى أبين.. وسافر السلطان إلى لندن لاستكمال علاجه من الإصابة القاتلة, وظل يعاني الطعنة حتى بعد شفائه.. وعند عودته علمت أنه لم يتخذ أي إجراء ضد المواطن الذي كانت إصابته خطيرة, وأمر بصرف راتب له, ولم أدر بعد ذلك كيف كانت نهايته, ولأن عملي مرتبط بالسلطان حسين بقيت في عدن حتى عودته, وأفاجأ برسالة منه من لندن قال فيها ما معناه: أنه وصلته رسائل تشير بأن السلطان, يقصد السلطان عبدالله بن عثمان, يتآمر عليه, ويطلب مني أن اكتب له بالتفصيل عن حقيقة هذه المؤامرة.. الخ.. وكنت قبل وصول رسالته قد تلقيت رسالة من أبين من ابن أخيه الأمير الشاب ناصر صالح عبدالله ومما جاء فيها: (أن الوالي هيكنبوثم جاء إلى مدينة (شقرة) حيث يقيم السلطان عبدالله بن عثمان, و التقاه ونصحه بخلع النائب حسين, وكذلك جردوا أصحاب النائب من السلاح, وقال: والله إنه انقلاب له أثر كبير في نفوسنا , ويطلبني أن أصل لمراقبة الموقف.
رسائل الأمراء
لم أهتم في الحقيقة برسالة الأمير الشاب ولكن رسالة السلطان حسين دفعتني إلى التحرك إلى أبين وقمت بمراقبة الأمر فلم أر ما يوحي بأن هناك مؤامرة لأن مسكني يقع في قلب قيادة الأمن.. وكتبت للسلطان حسين على الفور بأن شيئاً مما ذكر عار من الصحة تماماً, ومن هنا بدأت أغوص في البحث مع أصدقائي من الأمراء عن وضعية الحكم وفهمت أن السلطان عبدالله (الأمر) يشعر بالظلم من هذه الوضعية, وأن كل محاولاته مع الإدارة البريطانية لتصحيح وضعه باءت بالفشل.. ومن هذا كله ومن فهمي لسوء العلاقة بين السلطان حسين والانجليز من وقت طويل وتأكدي من زيارة الحاكم العام البريطاني للسلطان عبدالله في (شقرة) استنتجت بأن الانجليز توصلوا إلى اقتناع لإقالة السلطان حسين من منصبه في وقت معين.. وقد تم ذلك كما بينا من قبل الحاكم العام هيكنبوثم في مكان سابق, إلا أنهم رأوا في غياب السلطان حسين في لندن فرصة سانحة لزرع الفتنة بين الأسرة السلطانية لغرض يعلمه الله ولكن السلطان عبدالله تنبه إلى القصد وطرح على الحاكم العام ممارسة سلطاته كسلطان في شئون بلده قبل أي شيء وأنه الجهة التي تعين نائبه إذا ما أراد نائباً له وليس نائباً للسلطنة.
وبعد ذلك سيمتثل لنصائحهم في كل الأمور.. وجدير ذكره أن السلطان والنائب أبناء عم وبينهما مصاهرة, والحقيقة لو شئت أن أتحدث عن السلطان حسين بن عبدالله فإن ذلك يحتاج إلى كتاب مفصل لأنه فريد من نوعه سواء في أسرته أو سلاطين المنطقة بأسرها, فقد كان للحق حاكماً عادلاً ووطنياً وصاحب شخصية مهابة في بلده ولدى أسرته والمواطنين جميعاً, أسس دولة على نمط الإدارة في مستعمرة عدن بشكل عام, مبنية على التخطيط في تقديم الحياة الاجتماعية وهو أول من أقام مدرسة للبنات في المنطقة بأسرها.. وعلى توريد موارد السلطنة المالية من مختلف الجهات إلى إدارة المالية, والتفتيش على أموال الدولة.. ولا وجود لمخصصات مالية لأفراد الأسرة السلطانية لمن لا يعمل وان وجدت فهي قليلة لا تستحق الذكر ومن يعمل منهم يتساوى راتبه مع المواطنين.. وكان يحرص أشد الحرص على سيادة القانون, ومحاربة الرشوة والفساد الإداري ومنع دخول القات إلى السلطنة, وحكاية المواطن (الأحمدي) الذي فرضها سياق الأحداث واحدة من مائة حكاية, وإنني لأعذر القارئ إذا لم يصدقها لكون صاحبها سلطاناً.
عدالة السلاطين
ويدفعني السياق لأروي حكاية واحدة من مائة أو أكثر, غيرها وهي أن السلطان حسين كما اشرنا سن قانوناً يحرم تعاطي القات في السلطنة الفضلية ومن يتعاطى القات يكن عرضة للغرامة المقدرة من قبل قاضي المحكمة المدنية, وكان قاضي المحكمة يومئذ سلطاناً, وفي أبين ينعت الأمراء بالسلاطين والقاضي بالحاكم وكان هذا السلطان الحاكم, من المولعين (بالقات) ويتعاطاه سراً يومياً في بيته, وذات يوم بعد شهر من صدور القانون جاء إلى السلطان حسين من اسر إليه بخبر الحاكم واستشاط غضباً وانتظر حتى دنا المغرب واصطحب احد الجنود وعند سور بيت الحاكم الخلفي استعان بظهر الجندي ومن فوقه قفز إلى داخل البيت, لأن الحاكم كان من أسرته, وعندما رآه الحاكم واقفاً أمامه تجمد الدم في عروقه وكان متلبساً, فقال له : أراك في مكتبي صباح الغد.. وعلمت العاصمة بالخبر, وجاء السلطان (الحاكم) إلى السكرتارية مبكراً وكان شاحب الوجه كأنه لم ينم ليلتها, وحضر السلطان حسين فنهض الحاكم ليسلم عليه فلم يلتفت إليه, ودق الجرس يطلبني كالعادة, أدخل لي فلاناً, ودخل الحاكم متجهاً إلى السلطان ليسلم عليه فنهره قائلاً: قف هناك كمجرم, والتفت عليّ وقال: اكتب عبارة, من أين لك هذا؟ ومضى يسأله عن ممتلكاته من قبل أن يتسلم منصبه وبعده.. وفي النهاية قال له: إن ممتلكاتك بعد الوظيفة سأدرسها واتخذ القرار بشأنها لاحقاً.. أما الآن فأنت متوقف عن العمل.. وقال لي: اطلب من كاتب المحكمة كشفاً بالغرامات التي أصدرها هذا الحاكم على المواطنين الذين وقعوا تحت طائلة القانون, وعليه أن يدفع المبلغ الإجمالي لهذه الغرامات كلها, ولأن هذا السلطان (الحاكم) قريبه فقد تدخل الأمراء بعد أن هدأت ثورته للتخفيف عليه فيما يتعلق بممتلكاته التي كان ينوي مصادرتها.
الرئيس ربيع والسلطان حسين
إن القارئ العزيز, مرة أخرى قد يأخذه الاستغراب عندما يقرأ هذا ولكن حكايات العدل والانضباط الإداري عند هذا السلطان قد تستغرق الكتاب بأكمله, كما نوهت وليس معنى ذلك أن السلاطين في المنطقة الجنوبية كانوا على شاكلته إطلاقاً كان هو الفريد في هذا السلوك العجيب والغريب.. وما كان لديه إلا راتبه, ودخل أرضه التي لا يمكن مقارنتها في كبر رقعتها مع السلاطين الآخرين, في المناطق الأخرى, وأستطيع أن أجزم أن الرئيس سالم ربيع علي أثناء حكمه كان متأثراً كل التأثر بسلوك هذا السلطان في الحكم على مختلف المجالات باستثناء المزايدات الإيديولوجية التي كان يتداولها مع رفاقه, وأقول هذا على مسئوليتي.. أما ما يتعلق بإقالة السلطان حسين بن عبدالله من منصبه من قبل الحاكم العام البريطاني بعد مفارقتي أبين فلم يكن موضع استغرابي كما سبق التنويه.. وبعد أشهر وصلني نبأ انقلاب سيارته وهي في عودتها من سهرة في مدينة جعار, ومات فيها, والسؤال: أين قضى سهرته, وسبب انقلاب سيارته؟ وعلم ذلك عنده, أو عند البعض الذين هرعوا لمعاينة الحادث, ووقفوا على السبب.. وأعود على عرض السلطان عبدالله بن عثمان سلطان أهل فضل الذي قدمه لي للالتحاق بسكرتاريته, كما قدمت, وكنت على يقين بأن قضيته في غاية التعقيد ولكن في ذات الوقت استشعر أن عزيمته في ممارسة حقوقه كسلطان في بلده وحماسته في إقناعي بالعمل في هذا السبيل, لاشك لم تأت من فراغ ويحكمها أمران: إما أنه حصل على موافقة الانجليز فيما عزم عليه, أو أنه رأى أو رأى غيره أن تعيين السلطان أحمد بن عبدالله خلفاً لأخيه الحسين فرصة تتيح له استرداد حقوقه كسلطان ولاسيما أن السلطان أحمد قليل الخبرة في إدارة السلطنة, وعديم الشعبية في آن.
وعود كاذبة
التحقت بسكرتارية السلطان عبدالله تقديراً لثقته بي, وفرصة أن ابتعد من الارهاقات الفنية, وأعطاني السلطان بيتاً في مدينة (زنجبار) العاصمة نقلت أسرتي إليه, واجتمعنا فقال: إن النائب أحمد بن عبدالله وعده ببناء مكتب خاص به في القريب العاجل.. وقلت هذا هراء من الممكن أن نحتل بعض الغرف الفاضية في السكرتارية مؤقتاً ،حيث إن بناء مكتب يتطلب أكثر من عام ومن غير المعقول أن نبقى في بيوتنا لا نعمل إلى ما بعد عام, وحرضته للقاء النائب في الغد, بعد أن أعددت ورقة له بطلبات المكتب من لوازم بشرية وأثاث.. الخ.. بغرض أن أصل إلى معرفة نوع العلاقة بينه وبين النائب, ومدى جدية السلطان فيما عزم عليه.
وعاد السلطان بوعود من النائب وفطنت أنها كاذبة.. وقلت له يا سلطان أصدقني القول, ما الذي جعلك تفكر الآن في حقوقك كسلطان بعد سنوات طويلة؟ قال فكرت, أليس من حقي أن أفعل؟! قلت: من حقك فعلاً.. ولكن كيف؟! قال: كيف هذه أنت تعرفها.. قلت: لا يا سلطان يا طيب , لو سألتني, كيف عندما شرفتني بالزيارة لأجبتك عليها وهي سهلة, ورغم ذلك استفسرتك عن موقف الانجليز من الأمر, وجوابك ستفكر بعد ذلك أعطاني انطباعاً بالتفاؤل, أو أن هناك شيئاً آخر أعطاك الأمل في تحقيق ما تريد وأنا أعاونك فيه, فقل لي الحقيقة رجاء فقال: ليس هناك اتصال بيني وبين الانجليز في هذا الشأن, وإنما هناك تفاهم بيني وبين النائب ووعد ببناء المكتب قلت: ليست القضية بناء مكتب, وإنما قضية مضمون, والمضمون سأكشفه لك الآن وكتبت رسالة إلى النائب وقعها السلطان تتضمن موافاة السلطان بمعلومات عن الحالة العامة في السلطنة من وجوه عدة, ونسخة من التصميم لبناء مكتب السلطان بمعلومات عن الحالة العامة في السلطنة من وجوه عدة, ونسخة من التصميم لبناء مكتب السلطان, والموعد المحدد لإنزال المناقصة للمقاولين وتبعت ذلك بتظلمات بعض المواطنين وطلب من النائب الرد لإنزال المناقصة للمقاولين وتبعت ذلك بتظلمات بعض المواطنين وطلب من النائب الرد تفصيلاً حول الإجراءات التي اتخذها بشأنها.. الخ.. ومضى أكثر من شهر ولم يرد النائب عليها.. وطلبني السلطان إلى (شقرة) ونزلت في دار الضيافة, والتقيت السلطان وقلت له: لقد أهمل النائب كل رسائلك فما أنت فاعل؟! طبعاً لاشيء لأنك لم تتفاهم معه على المضمون والشرعية بيده من الانجليز وليست بيدك فإما أن تجري اتصالاً بالانجليز أو تتفاهم مع النائب في الصلاحيات المخولة لك في شئون إدارة الحكم, وهو بدوره بالطبع سينقلها إلى الانجليز لدراستها وموافقتهم عليها أو رفضها.. فقال سأتصل بالنائب وقلت: بالمناسبة أراني مشفقاً عليك لتحمل راتبي من راتبك الضئيل وهذا.. لعلمي.. يرهقك!! لذلك بعد موافقتك سأكتب رسالة إلى النائب أحمد, وتوقعها ليكون راتبي من السلطنة وكان رد النائب أحمد بالإيجاب, وهي الرسالة الوحيدة, التي رد عليها, وطلبني إلى بيته للسمر في ليلة رمضانية وقال: الراتب أنا عملته من أجلك, أو بالأحرى لخدماتك المخلصة السابقة معنا ومحبتك الكبيرة في أسرتنا جميعاً ولست أفهم كيف قبلت وضعاً كهذا وأنت أعرف بأوضاعنا.. الأهم أنت ممكن تأخذ راتبك مقدماً لأشهر وتذهب إلى عدن وتعود لتأخذ غيرها وأن شئت البقاء عندنا فهذه بلدك إلى أن نبني مكتب السلطان.
العودة إلى عدن وبساطة السلطان
وعدت إلى عدن لأبحث عن عمل واحتفظت ببيتي في أبين لأن لي فيه ذكريات جميلة وأحباء ولم أدر الا والسلطان عبدالله يفاجئني بزيارة وكان بيت أبي المتآكل المتهالك مفتوحاً (للمقيل) للأصدقاء بعد أن انتقلت منه مع أسرتي إلى بيت مجاور متطور.. وانتفضت قائماً عندما رأيت السلطان الكبير وأجلسته في مكاني وناديت الولد ليأتي بفرش ولكنه اقسم أن لا يكون وقدمته للحاضرين: هذا الوالد السلطان عبدالله بن عثمان, سلطان أهل فضل, ودهش الحاضرون من المفاجأة ولم ينبس أحدهم ببنت شفة, وهمس السلطان في أذني قائلاً: أحرجوني أصحابك افهمهم؟ وقلت : يا إخواني خذوا راحتكم في الكلام, أنتم مستغربون أن يجلس معنا سلطان أهل فضل في هذا المكان الخراب؟ ولكن هذه طبيعة أهل فضل, سلطاناً أو غيره, وأضاف السلطان: اعتبروني واحداً منكم وعضواً في المبرز, ولكن السلطان عبدالله من المولعين (بالقات) وهو الوحيد المسموح له بتعاطيه في (شقرة) العاصمة القديمة للسلطنة, وسبق التنويه إلى أن القات كان ممنوعاً وملخص الحديث بيني والسلطان في هذه الجلسة, أنه ظن أني هربت وأنه سبب لي أذى حين خسرت وظيفة المدرسة من أجله بدون فائدة, وقال: أنت تعرف أنا (بوحسين) وقاطعته: حاشى لله, وسردت له ما حدث في لقائي مع النائب, وأنني تحت أمره في أي وقت إذا ما رأى تقدماً في الموقف, وقال بعد (المقيل) لابد أن تصحبني إلى (شقرة) وهكذا ظللت بين (شقرة) زنجبار, عدن) بدون فائدة.
سفر السلطان ورحلة العمل
وفجأة وبدون مقدمات, وأنا في الشيخ عثمان أسمع بسفر السلطان عبدالله بن عثمان إلى أوروبا والشرق الأوسط في مكالمة تلفونية من بيت السلطان في (كرتير) وكان المتكلم السلطان أحمد بن عبدالله نائب السلطنة يقول لي :( تعال الآن إلى بيت السلطان ووجدت معظم السلاطين لتوديعه, وكانت مفاجأة أخرى أن أسمع بأنني وولده المهذب الأمير عثمان بن عبدالله سنلحق به بعد أسبوع على الطائرة, وسلموني المبالغ الخاصة بتذاكر السفر والملابس.. وودع السلطان في اليوم التالي توديعاً مهيباً من قبل المسئولين الانجليز على رصيف الميناء ما الذي حدث؟ سألت نفسي, أعرف أن السلطان ليس في جيبه حتى قيمة تذكرة الطائرة لنفسه لأني أعرف أحواله المالية, فكيف بالزيارة الكبيرة هذه مع أربعة أفراد معه اثنان من أصدقائه وابنه وأنا؟ أحسست أن السلطان أحمد بن عبدالله قد لعب هذا الدور مع الإدارة البريطانية لسببين هما: أن الرحلة سوف تنسيه مطالبه في السلطة ولاسيما وأنه لم يسافر قط في حياته خارج بلده إلا إلى أم القرى للحج, ومن ناحية أخرى أن الرحلة ستشعره بأنه بالفعل سلطان بلده.. وبالفعل شاهدت ترتيبات هائلة للسلطان في لندن حيث أنزلونا في فندق فخم, وفي زياراتنا لمعالم لندن كان هناك اهتمام واضح من المسئولين بقدومنا في كل مكان وكذلك في زيارة مدينة برمنجهام ومعالمها، وعندما ذهبنا إلى الريف البريطاني كان في استقبالنا رئيس البلدية ، وكانت ترافقنا دائماً امرأة في المجلس البريطاني ، وظلت معنا في زياراتنا للعاصمة الفرنسية، والنمسا، ويوغسلافيا واليونان، وتركيا وبعدها قفلت المرأة راجعة إلى لندن، وواصلنا الرحلة عبر القطار إلى حلب، فبيروت وبحراً إلى الإسكندرية ثم القاهرة، كنا نمكث يوماً وليلة في المدن الأوروبية، أما بيروت والقاهرة، وأسمرة فقد مكثنا في كل منها أياماً وأخيراً، العودة إلى عدن على الطائرة التي يركبها السلطان لأول مرة وكان يقرأ القرآن طوال الرحلة.
ـ رحلة ما كنت أحلم بها قط،وشاء المولى عز وجل أن يعوضني عن عناء مشوار الحياة فأرسل السلطان عبدالله بن عثمان يطلبني للعمل معه، حيث لا عمل له يذكر، من أجل هذه الرحلة الجميلة التي لو شاء ثري أن يقطعها لاحتاج الآلاف المؤلفة من الجنيهات الإسترلينية.. وعند العودة ظللت أتردد بين أبين وعدن، وكان السلطان عبدالله هادئاً، ولم تعد هناك مطالب سلطوية،
المصدر
موسوعة_جعار_ثقافية_اجتماعية_زراعية_تعليمية_رياضية/صفحة الدكتور وهيب عبدالله سعد على فيسبوك