آخر تحديث :السبت-20 ديسمبر 2025-02:03ص
أخبار وتقارير


«الجنوب العربي هوية الشعب والأرض والتاريخ»

«الجنوب العربي هوية الشعب والأرض والتاريخ»
الجمعة - 19 ديسمبر 2025 - 10:50 م بتوقيت عدن
- أبين تايم/خاص

بقلم/نورا المطيري

كل شيء في الجنوب العربي ينطق بالسيادة.

في كل مرة نتأمل فيها ما يحدث على أرض الواقع بين الشمال اليمني والجنوب العربي، فإن الصورة الراسخة في الأذهان لا تغادر هوية الأرض والشعب والتاريخ منذ ما قبل الوحدة عام 1990، وتظهر ملامح الجنوب ككيان سياسي متمايز وفريد، لم تتمكن أيٌّ من المشروعات الهدّامة من تذويبه أو سلخه عن هويته الأصلية. ومنذ الاجتياح الغاشم عام 1994 وحتى عام 2017، بقي الجنوب يقاوم لاستعادة الحق إلى أصحابه، دون ملل أو كلل.

ومن وجهة نظري، فإن الجنوب العربي لا يشترك مع الشمال اليمني سوى في خطوط الجغرافيا على الورق. أمّا التاريخ واللغة والعادات والثقافة والعمارة، وحتى أسلوب العيش، فلكل طرف نغمة منفصلة، ولكل شعب لونه الخاص. كان الجنوب العربي ولا يزال وطنًا قائمًا بذاته، تم بناؤه – كما تذكر جميع المراجع – بمداد التاريخ والسيادة.

كنتُ أولَ من رافق تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي عام 2017 من الكتّاب الصحفيين العرب، وأولَ من كتب مقالات سياسية تحليلية حول رؤية المجلس وأهدافه. ورأيتُ حينذاك، وما زلت أرى، أن القائد عيدروس الزبيدي تولّى مهمة استثنائية كبرى تتجاوز السياسة بمعناها الإجرائي، لاستخراج «الذات والذاكرة الجمعية الجنوبية» التي حاولت الوحدة المشؤومة إذابتها وشلّها، ولمّ شملها. واستمر ذلك على قدم وساق، بكل أمانة وإخلاص، عبر مواجهات دامية مع الحوثيين الإرهابيين، وكذلك مع الجماعات الإرهابية الأخرى الفاسدة كحزب الإصلاح والقاعدة وغيرهما. وبقيت الرؤية كما هي، بل أصبحت أكثر رسوخًا وأقرب للتحقيق من أي وقت مضى.

لا يخفى على أحد أن الشمال اليمني، بطبقاته الممزقة بين سلطة الحوثي في صنعاء وهيمنة الإخوان هنا وهناك، إضافة إلى الجماعات الإرهابية الأخرى في جيوب الشمال، فضلًا عن نخبة المرتزقة الذين يسيطرون على بعض النفوذ، قد حوّل جغرافيا الشمال إلى حلبة صراع دائم لا ينتهي. عدا عن سلطة القبيلة والسلاح والخرافة التي تتقاسم ما تبقّى من الشمال. وفي خضمّ هذا كله، فإن الجنوب العربي يبني مؤسساته ويمضي بثبات نحو الاعتراف الدولي، مع علم الجميع بأن الحوثي يعيد اليمن إلى زمن الإمامة المظلم، وأن «الإصلاح» يعيد إنتاج «الولي الفقيه الإخواني» بثوب ورداء مختلفين.

لاحظوا أن هذه القوى، رغم عداوتها الظاهرة، تتقاطع عند نقطة واحدة، وهي معاداة الجنوب والوقوف في وجه أي مشروع لاستعادة الدولة سيادتها التاريخية، والسبب – بطبيعة الحال – أن الجنوب، بما يحمله من مشروع وطني تحرري، يعطّل مشاريعهم الطائفية والمصلحية. ولهذا تتكثّف الحروب المركّبة على عدن والمكلا ولحج إعلاميًا واقتصاديًا وسياسيًا.

يمكن القول إن مسار الجنوب العربي في سعيه نحو الاستقلال يقوم على تصحيح مسار تاريخي، ويعيد أيضًا تموضعه ضمن سياق عالمي من التجارب الناجحة التي جسّدت قيم الانفصال السلمي والعقل السياسي الناضج. ونذكر، على سبيل المثال، تجربة النرويج عام 1905، التي تُعد من أنصع الدروس في هذا الباب؛ إذ نتحدث عن اتحاد دام 91 عامًا مع السويد، انتهى باستفتاء شعبي سلمي صوّت فيه أكثر من 99.95% من النرويجيين لصالح الانفصال، دون قذيفة واحدة أو طلقة رصاص أو صدام أهلي. كانت لحظة سيادة نادرة في التاريخ، اختارت فيها النخب والشعوب المضيّ نحو الانفصال بإرادة جامعة وبصيرة سياسية عالية، فولدت دولة مستقلة تنبض اليوم في مصاف الدول الأكثر استقرارًا ونموًا.

وعند النظر إلى سنغافورة وماليزيا في منتصف القرن العشرين، نقرأ تجربة أخرى في الانفصال الرشيد. ففي عام 1965، اختارت النخبة السنغافورية، بقيادة «لي كوان يو»، فضّ الارتباط السياسي مع ماليزيا بسبب خلافات عرقية وهيكلية لم تُعالج بالترقيع أو الوصاية، بل عولجت بالتوافق والإرادة. فخرجت سنغافورة من الاتحاد بعد عامين فقط، لا ضعيفة ولا منقسمة، بل متسلّحة بوضوح الرؤية وسيادة القرار. وبعد سنوات، تحوّلت إلى أحد أقوى اقتصادات العالم وأكثر دول آسيا انفتاحًا واستقرارًا.

الجنوب العربي يقف اليوم عند النقطة ذاتها من النضج. فالإرادة الشعبية موجودة، والموارد والثروات متاحة، والموقع الجيوسياسي يمنحه قدرة على لعب دور محوري في أمن الإقليم. كما أن القيادة السياسية، ممثّلة بالرئيس عيدروس الزبيدي والمجلس الانتقالي الجنوبي، تملك من الواقعية والخبرة ما يؤهلها لإدارة دولة بعقلانية وحكمة سياسية واقتصادية واجتماعية.

إن هذه التجارب برهانٌ سياسي عالمي على أن فسخ اتفاق الوحدة مع الشمال قد يكون بداية جديدة لدولة أكثر تماسكًا وعدالة. فلماذا يُفترض أن تنتهي الوحدة اليمنية – المشوّهة أصلًا – بالرصاص والدمار، فيما قدّم التاريخ عشرات النماذج التي خرجت من رحم التوافق والسيادة؟ إن الجنوب العربي يطالب العالم باحترام منطق التاريخ وحقّ الشعوب في اختيار شكل حياتها.

وحسب رأي معظم المحللين، لا يمكن فصل نهوض الجنوب العربي عن أمن الخليج والشرق الأوسط بأسره. فقيام دولة جنوبية مستقلة يشكّل تحوّلًا جيواستراتيجيًا يساهم في ترسيخ موازين القوة والاستقرار في المنطقة. كما أن الجغرافيا البحرية للجنوب، الممتدة من عدن إلى المهرة، تمثّل حجر الزاوية في أمن الملاحة الدولية والتحكّم بمضيق باب المندب، شريان التجارة العالمية.

ومن الواضح أن الجنوب العربي يتقدّم كقوة مسؤولة قادرة على أن تكون الذراع الجنوبية للأمن القومي الخليجي في مواجهة التهديدات الآتية من مليشيات الحوثي والتمدّد الإيراني في خاصرة شبه الجزيرة. فحين يستقر الجنوب تستقر الجزيرة العربية، وحين تنهض عدن تتراجع شظايا الفوضى من صعدة إلى صنعاء.

الأمن الإقليمي، كما أراه، لا يُؤمَّن بخطابات الوحدة الهشّة، بل ببناء دول قابلة للحياة تمتلك قرارها وتتحمّل مسؤوليتها. ودولة الجنوب المرتقبة تقدّم هذا النموذج: شريك صلب في مكافحة الإرهاب، وحليف ثابت في تأمين الممرات البحرية، وفاعل سياسي قادر على إجهاض مشاريع الإخوان والحوثيين والقاعدة التي تتغذّى على هشاشة الدولة الواحدة.