جمعَ الكتبَ التي أخذ يبتاعها منذ ريعان شبابه، ذاتَ ظهرٍ، ووضعها في كومة، ومعها بعضُ ما ألّفه هو شخصيًا. لم تحتج إلى أكثر من عود ثقاب أو ومضة ولاعة.
أخذت النار تشتعل بهدوء، برتقاليةً مشوبةً بدخان رمادي داكن، وهي تطوي أوراقه البيضاء بخطوطها السوداء؛ كان تضادًا جميلًا لطالما اجتذبه!
النيران تتسع، تتنافس على التهام أوراق عمره، كأنها في سباقٍ كبهائم جوعى!
قضت الآن خمسة وأربعون عامًا منذ أن انخرط في ذلك العالم. كانت الكتب تغريه أكثر من أي شيء آخر: عناوينها، أسماء كُتّابها، ألوانها، أحجامها، شكلها، مضامينها!
لم يكتفِ بالقراءة، بل أراد أن يدلوَ بدلوه في عالم الثقافة والفكر، لكن المردود المادي لم يكد يكون معدومًا.
لم يأبه إلا لتأثيره المعنوي، لكن حتى هذا لم يكن بقدر ما بذله، ويبذله، من جهود!
انبرى له والده مرارًا ينصحه، وهو يرى كتبه تملأ كراتينه، أو يراه منهمكًا في الكتابة:
(لا فائدة منها ولا منك، احرق هذه الكتب أو بعها!)
لو أنه فتح كشكًا كما نصحه أبوه، وجمع الفلس على الفلس، ثم صيّر الكشك بقالة، ووسّع تجارته، لكان اليوم يملك الملايين، ولما احتاج لأحد.
(الفلوس أخطر ما اخترع الإنسان!) يذكر أنه قرأ هذه الجملة في عمل تراجيدي.
تصرّف في تلك المقولة، إذ وضع بدلًا من لفظة «أخطر» كلمة «أهم».
الفلوس: اجمعها بأيّة طريقة ووسيلة، فلن تنال التقدير إلا إذا كنت ممن يحرصون على جمعها بالباطل قبل الحق.
آه، ليتك سمعت نصيحة أبيك واشتغلت بالتجارة بدلًا من أن تضيع عمرك في بلاد تحارب مبدعيها.
فتح بقالة أمام منزله، جلب بضاعة شتّى. جاءه جار عياله بلا طعام فردّه. وقف طفل أمامه ينظر إليه بعينين مستكينتين، يستجدي علبة بطاطس (طرزان!)، فلم يرحمه.
ما هي إلا سنة، وتضاعف رأس ماله مرات.
نظر إلى الفلوس التي بحوزته، سمع صوتًا يهتف به: (من أين لك هذا؟)
كان يصف التجار بأنهم يمارسون سرقةً مشروعة لا تختلف عن أي سرقة.
هو اليوم صار لصًا، ينهب ويسلب من جيوب الناس دون حسيب ولا رقيب.
أفّ، ليته عاش فقيرًا على أن يعيش لصًا.
سالم فرتوت
19 ديسمبر 2025م