الثور بالنسبة للفلاح الأبيني ليس مجرد حيوان عمل، بل روح تمشي على الأرض. هو الأب، كما كانت البقرة هي الأم في ريف أبين بشكل عام. كان الفلاح ينادي ثوره «أباه» ويلاطف بقرته «أمّاه»… علاقة إنسان بأرضه، وشراكة حياة لا تعرف القسوة ولا العجلة.
الحراثة كانت وما زالت الأساس الأول للزراعة، فهي التي تُهوّي التربة، وتكسر الطبقات الصمّاء، وتُعيد للأرض قدرتها على التنفّس وامتصاص الماء. سواء تمت الحراثة بالبقر أو بالآلة، تبقى هي الخطوة التي يتحدد عليها نجاح الموسم من فشله. أرض بلا حراثة جيدة كجسد بلا روح.
لكن الفلاح اليوم يجد نفسه مثقلًا بالتكاليف، محدود الخيارات، بعد أن تحولت الحراثة الآلية إلى عبء مالي ثقيل، وابتعدنا شيئًا فشيئًا عن الوسائل البسيطة التي كانت تخدم الأرض ولا تُرهق المزارع.
ذاكرة الستينات إلى منتصف السبعينات حين كان الثور هو العامل الأمين
في دلتا أبين، يتذكر كبار السن أيامًا كان فيها كل مزارع تقريبًا يمتلك زوجًا من الأثوار. لكل ثور اسم، ولكل اسم حكاية. لم يكن السؤال: متى نحرث؟ بل: كيف نُحسن الحراثة؟ وكيف نُرضي الأرض؟
المحراث البلدي الذي تجره الثيران لم يكن عشوائيًا ولا بدائيًا كما يظنه البعض اليوم، بل كان أداة ذكية بطبيعتها. يفتح خطًا عريضًا متوازن العمق، يترك التربة مفتوحة دون تكسير مفرط، ويحافظ على رطوبتها وبنيتها.
المحراث البلدي ميزة لا تُقدَّر بثمن
من أهم مزايا المحراث البلدي:
يفتح الخط واسعًا، ما يساعد على توزيع البذور بشكل متوازن.
لا يضغط التربة كما تفعل بعض الآلات الثقيلة.
يقلل من الحاجة إلى عمليات إضافية لاحقة.
يخدم الأرض على المدى الطويل دون إنهاكها.
وفي الزمن الجميل، كانت زراعة الفول السوداني تتم بالكامل عبر المحراث البلدي. كانت البذور تُزرع في وسط الخط العريض، تنمو بهدوء، وتُكوّن قرونها دون عناء. لم يكن المزارع بحاجة إلى تدفين أو تكويم التراب حول النبات كما يحدث اليوم، لأن الخط نفسه كان يؤدي الغرض، والنبات ينمو في بيئة مثالية.
فقط يقوم بعملية التعشيب في حال ظهور حشائش ضارة.
دلتا أبين أرض زراعية بُنيت على أكتاف الثيران
دلتا أبين، بأحواضها وقنواتها، قامت على سواعد المزارعين وظهور الثيران. السيول كانت سمادًا طبيعيًا، والأرض خصبة، والإنتاج وفير. لا مبيدات، ولا أسمدة كيميائية، ولا أمراض غريبة. كانت الزراعة متوازنة، والطبيعة تقوم بدورها كاملًا.
اليوم تغيّر كل شيء. الآلة حضرت، لكن التوازن غاب، وكأننا استبدلنا البساطة المُنتِجة بالتعقيد المُرهِق.
خلاصة القول …
لسنا ضد التطور، ولا ضد الآلة، لكننا مع الحكمة في الاختيار. الأرض تفهم من يخدمها، سواء كان بثورٍ صبور أو بآلةٍ مدروسة. المهم أن تبقى الحراثة صحيحة، وأن يبقى الفلاح قادرًا على العمل دون أن يُستنزف.
عبدالقادر السميطي
دلتا أبين