بقلم | أيمن مزاحم
في زمن تتسارع فيه التغيرات وتتزايد فيه التحديات، يبرز "قانون الثقة المكسورة" كفلسفة جوهرية لا غنى عنها. إنها ليست مجرد نظرية في العلاقات، بل هي منهج عملي لصيانة أغلى ما يملكه المجتمع: منابع العطاء. فعندما تهتز الثقة، سواء في المؤسسات أو القيادات أو حتى بين الأفراد، فإن النتيجة ليست مجرد خلاف عابر، بل جفاف تدريجي لروح المبادرة والتعاون والإيثار.
فمنذ أن تشكلت أولى التجمعات البشرية، اعتمد البقاء على معادلة بسيطة ولكنها صعبة التحقيق: معادلة الثقة المتبادلة. هذه الثقة هي الرصيد المعنوي الذي تسري به شرايين الحياة الاجتماعية، ومن دونها ينهار كل بناء. وفي هذا السياق، يأتي المثل العربي العتيق والعميق: "ما من أحدٍ يشرب من بئرٍ يُرجم إليها"، ليشكّل ميثاقًا اجتماعيًا حاسمًا لا يقبل التهاون، ويضع حدًا فاصلاً بين طالب المنفعة وبين جاحدها.
إن رمزية "البئر" هنا تتجاوز مصدر الماء المادي لتصبح تجسيدًا لكل نبع خير، ومورد دعم، ومأوى في حياة الإنسان. فقد تكون البئر هي الصديق الذي لا يخذل، أو القريب الذي يسند، أو الوظيفة التي تُعيل، بل وقد تكون الوطن الذي يحمي ويحتضن. هي أي مصدر يُفترض أن يكون مقدسًا ومصونًا، لأنه يمثل جهة العطاء التي يستمد منها المرء أمنه واستقراره. هذا المغنم الحيوي يتطلب بالضرورة تقديرًا وحماية، لا نكرانًا وإيذاء.
في المقابل، يمثل فعل "الرجم" قمة النكران والجحود. فليس الرجم مجرد إهمال أو تقصير في الشكر، بل هو تدمير متعمد للمصدر ذاته. إنه فعل يصدر عن ضيق أفق وغباء بالغ؛ فالرامي للحجر إلى قاع بئره لا يُعاقب البئر نفسها، بل يُعاقب ذاته بالعطش المؤكد في المستقبل القريب. هذا السلوك يستهلك الفائدة الحاضرة على حساب الأمن الباقي، ويُظهر فشلاً ذريعًا في فهم مبدأ استدامة الموارد في العلاقات. فالجاحد لا يكتفي باستخدام الدعم الممنوح له، بل يحوّله إلى أداة للإيذاء والتقويض، وهو ما يُعد خيانة معنوية تترك ندوبًا عميقة في نسيج الثقة.
إن جوهر المثل يُفضي إلى نتيجة حتمية لا مفر منها: الإقصاء التام. فلا يوجد مصدر خير أو دعم على وجه الأرض يستطيع أن يستمر في العطاء في الوقت ذاته الذي يُعَادَى ويُستنزَف فيه. فالبئر المرجومة ستُردم لا محالة، أو ستُهجر طوعًا أو كرهًا. هذا الانقطاع ليس فعلاً انتقاميًا بالدرجة الأولى، بقدر ما هو آلية حماية ذاتية يفرضها الميزان الأخلاقي؛ فالمصدر الحكيم يجب أن يقطع الماء عن الرامي ليحفظ قدرته على العطاء لمن يستحق ويُقدّر. وعلى الصعيد الاجتماعي الأوسع، يُصبح الجاحدون والمخرّبون معزولين ومكشوفين، مطرودين من دائرة الثقة، فلا يجدون بئرًا أخرى يجرؤون على الوثوق بها.
لذلك، يظل هذا المثل دعوة خالدة وواضحة إلى الوعي بأهمية التقدير وصيانة المنابع. يجب أن ندرك أن المنفعة والعطاء ليسا حقوقًا مجردة يمكن استغلالها دون مسؤولية، بل هما ثمرة علاقة قائمة على التبادل والاعتراف بالفضل. وفي خضم تعقيدات الحياة اليومية، تظل هذه الحكمة القديمة منارة توجهنا: إذا أردت استدامة الخير والرزق والدعم في حياتك، فيجب أن تكون اليد التي تأخذ منه هي ذاتها اليد التي تعمل على صيانته واحترامه وحمايته.