آخر تحديث :الأربعاء-24 سبتمبر 2025-02:45ص
أخبار وتقارير


الفساد السياسي في زمن الأزمات المفتعلة: استنزافٌ ممنهج لإرادة الشعوب

الفساد السياسي في زمن الأزمات المفتعلة: استنزافٌ ممنهج لإرادة الشعوب
الثلاثاء - 23 سبتمبر 2025 - 11:33 م بتوقيت عدن
- أبين تايم/خاص

كتب/حافظ الشجيفي:

في ساحة الأحداث الكبرى، حيث تتصارع المظاهر مع الحقائق، وتتخفى المقاصد في ثنايا التبريرات، ثمة داء أعمق من أن تلمسه تشخيصات السطح، وأخطر من أن تكشفه تحليلات المألوف. إنه ذلك النوع من العلل الذي لا يكتفي باستغلال جسد الشعب، بل يتخذ من استغلاله أداة لتحطيم إرادته وسلب خياراته. إنه الفساد الذي يتجاوز حدود الانحراف الإداري أو الجشع المالي، ليرتقي إلى مستوى "الاستراتيجية السياسية المُبيَّتة"، حيث تصبح المعاناة اليومية للشعب سلاحاً مشحوذاً في معركة خفية، لا يرى المواطن البسيط سوى ظلالها المأساوية من انقطاع للكهرباء وشح في الوقود وتأخير في الرواتب. هذه المقدمة ليست مجرد استهلال، بل هي إعادة تعريف لجوهر إشكالية طرحتها في المقال السابق، ونعمّمها هنا لتكون إضاءة أوسع على جرح نازف، يلبس دائماً جلباب داءٍ آخر.


ففي مقالي السابق، أشرت إلى هذا النوع من الفساد، وها انذا اعيد التشخيص بتعمق مرة اخرى. فالفساد السياسي الذي اعنيه هنا ليس مجرد إختلاس في للمال العام أو تقصير في أداء الواجب، فهذه قد تكون، في حالات كثيرة، أعراضاً لضعف بشري أو خلل مؤسسي يمكن معالجته. اما الفساد السياسي فهو فسادٌ "مقصود"، مُخطط له ببرودة أعصاب، يتحرك ضمن رؤية استراتيجية أوسع. فهو فساد غير عفوي، بل هو مفتعل ومُوَجَّه لتحقيق غايات سياسية محضة، لا علاقة لها بالمنفعة المادية الضيقة للمفسدين أنفسهم.


والفرق الجوهري هنا يكمن في الغاية. ف الفاسد الإداري أو المالي يسرق ليثري نفسه، أما الفاسد السياسي فيُفقر الشعب ويزيد من بؤسه ليكسر إرادته. اذ ان الفساد التقليدي هو انحراف عن المسار، أما الفساد السياسي فالمسار نفسه مبني على هذا الانحراف كشرط لتحقيق الهدف. وفي هذه الحالة، يصبح الفساد المالي والإداري – الذي يُظهرونه للعلن – مجرد "جلباب" يرتديه الفساد السياسي ليخفي حقيقته الأكثر قتامة وخطورة.


تتجلى آلية هذا الفساد في تحويل مقومات الحياة الأساسية إلى ساحات للصراع. لنأخذ مثالاً واضحاً، وإن لم يكن الوحيد، مما يحدث في عدن. أزمات الكهرباء المتعمدة، ونفاد الوقود المفتعلة، وتأخير صرف الرواتب المُتعمد، كلها ليست مجرد ثمرة لسوء الإدارة أو اختلاس الأموال. بل هي، في التحليل المنطقي الأعمق، أدوات ضغط منهجية. فلماذا يُقطع التيار الكهربائي عن مدينة بأكملها؟ ولماذا تخلو مضخات الوقود من المحروقات بينما تكون المخازن عامرة؟ الجواب لا يكمن في فساد مدير أو تقصير موظف، بل في خطة تهدف إلى شيء آخر تماماً.


هذه الأزمات المغتعلة تُقدَّم للرأي العام، عبر خطاب إعلامي مسيّر، على أنها نتيجة حتمية لفساد مالي محلي.حيث يتم توجيه أنظار الناس وغضبهم نحو "كبش فداء" محلي، بينما المحرك الحقيقي لهذه المعاناة يقف خلف الستار بهدف خلق حالة من الإرهاق الجماعي، والإحباط المستمر، واليأس المتصاعد. وعندما يصل المواطن إلى حد لا يهمه فيه سوى الحصول على قوت يومه وساعة من كهرباء، فإن أولويته القصوى ستكون البقاء، وليس المطالبة بحقوقه السياسية أو رفض المشاريع المفروضة عليه.


ومن هنا تبرز الغاية السياسية الخفية. فهذه الحالة من "الاستنزاف المُمنهج" تُهيئ الشعب لقبول ما كان سيرفضه لو كان في وضع طبيعي. فهي آلية للتركيع، بغرض ارغام الناس على القبول بخيارات سياسية معينة، أو بمشاريع تتعارض مع مصالحهم الوطنية العليا وإرادتهم الحرة. والشعب المُنهك، المُثقل بهموم الحياة اليومية، يصبح أكثر استعداداً للتخلي عن مكتسباته السياسية أو الموافقة على صفقات مشبوهة مقابل حل أزمة الكهرباء أو توفير الوقود.


وفي الخلفية من كل هذا، تقف قوى دولية تمول وتدعم هذا المخطط بكامله. فالفساد المالي المحلي هو فقط التروس الصغيرة في آلة كبرى يتحكم فيها من هم أبعد من الحدود. بينما الفساد السياسي، بهذا التعريف، هو الوجه الآخر للهيمنة، حيث لا تستخدم القوى الخارجية الجيوش، بل تستخدم فنون تعذيب الشعوب عبر حرمانها من أبسط مقومات كرامتها الإنسانية.


إذن، فإن المعركة الحقيقية ليست ضد الفساد المالي فحسب، فهذه معركة ضرورية لكنها ليست كافية. فالمعركة الجوهرية يجب ان تكون ضد تلك "العقلية الاستراتيجية" التي تتخذ من فسادنا وسيلة لحكمنا. فكشف هذه الآلية وفضحها هو الخطوة الأولى نحو التحرر. فلا يكفي أن نطالب بمحاسبة المفسدين مالياً، بل يجب أن نوجه السؤال الأكبر: لماذا تُصنع الأزمات؟ ومن تخدم؟ حيث تتطلب مواجهة الفساد السياسي يقظة شعبية وعقلية نقدية تنفذ إلى ما وراء الأسباب المعلنة، لتكشف الغايات المستترة. وعندما ندرك أن انقطاع الكهرباء بمثل سلاحاً سياسياً، وأن أزمة الوقود تعتبر مشروعاً للتركيع، سنكون قد بدأنا الطريق الحقيقي لاستعادة إرادتنا وكسر القيود التي تُفرض علينا من خلال معاناتنا نفسها.


وهذا هو جوهر ما أردنا توضيحه وتعميقه في هذا المقال، امتداداً لما بدأناه في المقال السابق فالفهم نصف العلاج.