بقلم /د. مريم العفيف:
لا يُقاس اليوم بطول ساعاته، ولا بعدد أنفاسه، بل بما يحتويه من لحظات وقرارات ومعايير تشكّل ملامح الوجود الإنساني. فاليوم ليس وعاءً زمنيًا محايدًا، بل هو ساحةٌ تتصارع فيها الرغبات، وتُختبر فيها الحرية في معناها الأصيل. إنّه المشهد اليومي الذي يعكس أعمق أسئلة الفلسفة: من نحن؟ وكيف نصوغ ذواتنا عبر ما نختار ونقرّر ونلتزم به؟
الاختيار: لحظة الانفتاح على الإمكان
الاختيار هو فعل الحرية الأول. إنه استجابة الإنسان لإمكانيات متاحة أمامه في كل لحظة. هنا يمكن استحضار ما طرحه جان بول سارتر حين قال إن "الإنسان محكوم عليه بالحرية"، أي أنّه لا يستطيع أن يتجنّب فعل الاختيار، لأن الامتناع عنه هو في ذاته اختيار. وفي علم النفس، يرى هربرت سايمون من خلال نظرية "العقلانية المحدودة" (Bounded Rationality) أن الإنسان حين يختار، فإنه يفعل ذلك ضمن حدود قدراته المعرفية والظروف المحيطة، لا في فراغ مطلق. وهكذا يتأرجح الاختيار بين مثالية الحرية الفلسفية وحدود الواقع النفسي والاجتماعي.
القرار: من الاحتمال إلى الالتزام
إصدار القرار هو العبور من مساحة الإمكان إلى مجال الالتزام. القرار يتطلّب وعيًا بالبدائل وبتبعاتها، وهو ما يتقاطع مع ما تطرحه نظرية التنافر المعرفي لـ ليون فستنغر؛ حيث إن كل قرار يضع الإنسان أمام ضرورة التوفيق بين ما اختاره وما قد يتعارض معه من رغبات أخرى، فيسعى ذهنيًا لتقليل التوتر النفسي الناتج عن ذلك. وهنا يظهر البُعد الفلسفي لسارتر مرة أخرى، حين يؤكد أن القرار لا يُعبر فقط عن رغبة آنية، بل هو إعلان ضمني عن "المشروع الوجودي" الذي يختار الإنسان أن يجسّده في حياته.
المعيار: الضابط الأخلاقي والنفسي
بعد الاختيار وإصدار القرار، تأتي مرحلة تطبيق المعيار. المعيار هو ما يجعل القرار أكثر من مجرد نزوة عابرة. في علم النفس، يشير لورانس كولبرغ في نظريته عن النمو الأخلاقي إلى أن سلوك الإنسان يتحدد وفق مراحل تطور ضميره: من الطاعة بدافع العقاب، مرورًا بالامتثال للعرف الاجتماعي، وصولًا إلى الالتزام بالمبادئ الكونية العليا. أما فلسفيًا، فإن المعيار هو الضابط الذي يحوّل الحرية الفردية إلى مسؤولية إنسانية، بحيث لا يكون القرار انعكاسًا لرغبة شخصية فحسب، بل تجسيدًا لقيمة أو مبدأ يعلو على المصلحة الفردية.
اليوم كساحة اختبار
عند النظر إلى اليوم بوصفه وحدة زمنية، ندرك أنّه مختبر دائم للوعي الإنساني. ففي كل اختيار نمارس الحرية، وفي كل قرار نختبر القدرة على الالتزام، وفي كل معيار نواجه سؤال المسؤولية. من مجموع هذه الحلقات الصغيرة تُصاغ شخصية الفرد، وتتحدد ملامح المجتمع، وتتجسد القيم الحضارية. وهكذا يغدو اليوم مرآةً عاكسة لمستوى نضجنا النفسي والأخلاقي والفلسفي.
خاتمة
إن تفاصيل اليوم ليست زمنًا يتكرر عبثًا، بل هي رحلة وجودية تكشف جوهر الإنسان. فـ الاختيار هو إعلان الحرية، والقرار هو توقيع الالتزام، والمعيار هو امتحان المسؤولية. وبين هذه المراتب الثلاث تتحدد إنسانيتنا: إما أن نصنع أيامًا تنبض بالمعنى، أو نتركها تنساب في خواء العادة.