بقلم:
اللواء الركن/ علي محسن الحارثي
مدير عام ديوان وزارة الدفاع
عضو اللجنة العسكرية والأمنية العليا
الفكر العسكري قديم قدم البشرية لكنه متجدد يواكب التطورات ومتطلبات الحرب الحديثة، فقد تفتقت عبقرية المفكر العسكري الصيني قديما حيث قال "ان التفوق الأسمى يتمثل في كسر مقاومة العدو دون قتال"، كانه يشير إلى فضيلة عسكرية يمكن ان تحقق هدف الحرب دون استخدام الوسائل التقليدية للحرب فلا تسمع فيها ازيز الرصاص ولا لعلعة المدافع.
من خلال تلك الحكمة العسكرية يمكن تناول موضوع الحروب الصامتة، والتي تشكل بمفهومها الشامل الذي يتجاوز المواجهات العسكرية التقليدية، تحديًا وجوديًا للأمن القومي العربي في العصر الحديث. فبينما تركز الحروب التقليدية على ساحات المعارك المباشرة، تعمل الحروب الصامتة في الخفاء، مستخدمة أدوات متعددة مثل الحرب السيبرانية، والاقتصادية، والإعلامية، والثقافية، بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي للدول وتفتيت نسيجها الاجتماعي. لقد أصبحت هذه الحروب أشد فتكًا وخطورة نظرًا لقدرتها على تحقيق أهدافها دون إطلاق رصاصة واحدة، تاركة وراءها مجتمعات منهكة واقتصادات مدمرة.
تتميز الحروب الصامتة بقدرتها على استهداف نقاط الضعف الداخلية للدول، مستغلة الثغرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فعلى الصعيد الاقتصادي، قد يُستخدم الحصار الاقتصادي، وتخريب البنى التحتية، أو التلاعب بالأسواق المالية لإحداث اضطرابات واسعة النطاق. أما على الصعيد الإعلامي والثقافي، فتعمل هذه الحروب على نشر المعلومات المضللة، وبث الشائعات، وزرع بذور الفرقة والانقسام بين أفراد المجتمع، مستهدفة بذلك القيم والهوية الوطنية. وفي المجال السيبراني، تُشكل الهجمات الإلكترونية على البنى التحتية الحيوية وشبكات الاتصالات تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، مما قد يؤدي إلى شلل في الخدمات الأساسية وتأجيج الفوضى.
إن التداعيات المحتملة لهذه الحروب على الأمن القومي العربي متعددة الأوجه وخطيرة للغاية. فهي قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي، صراعات داخلية، وتآكل الثقة بين الشعب وقيادته، وتفكك الروابط الاجتماعية؛ وفي أسوأ الأحوال، يمكن أن تُسهم في إضعاف الدول وجعلها عرضة للتدخلات الخارجية، مما يهدد سيادتها واستقلالها.
في هذا السياق كانت الرسالة العلمية الماتعة الفريدة والجديدة والتي جمعت بين الاصالة والمعاصرة في الفكر والفلسفة العسكرية لمعالي الفريق الركن/ محسن محمد الداعري وزير الدفاع والموسومة بــ"الاستراتيجية المقترحة لمواجهة تداعيات الحروب الصامتة على الأمن القومي العربي"، والتي نال بها درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف من أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية بجمهورية مصر العربية الشقيقة، حيث تقدم هذه الرسالة، رؤية عميقة وتحليلاً شاملاً لطبيعة هذه الحروب، وتبحر في تداعياتها الخطيرة على الكيان العربي ككل، والأهم من ذلك، تُقدم الرسالة نموذجًا استراتيجيًا متكاملًا لمواجهة هذه التحديات المتجددة.
فقد تمثلت القضية الحيوية في الاستراتيجية المقترحة ان كسب الحرب الانتقائية العميقة في المستقبل يعتمد إلى حد بعيد على القيادات الماهرة، الذكية، والثابتة التي توظف الامكانات والوسائل المتاحة سواء كانت عسكرية او غير عسكرية، كانت قوة صلبة او او قوة ناعمة او صامتة، بما يحقق استراتيجية الحرب؛ هذه القيادات التي شبهها "سان تزو": (بدرة تاج المملكة تتقدم دون طلب للفخر وتتراجع دون الخوف من عار الجبن وتخدم الدولة بدون طلب للسمعة)، واصطلح عليها المفكر العسكري البروسي "كارل فون كلاوزفيتز": (بالعبقرية العسكرية).!
للاحاطة بالقيمة العلمية للرسالة يمكن الإشارة الى بعض واهم أركان الاستراتيجية المقترحة والتي تضمنت إطارًا شاملاً ومترابطًا لمواجهة هذه التحديات، مرتكزة على عدة أركان أساسية:
1. تعزيز الوعي الوطني والمجتمعي:
يمثل هذا الركن حجر الزاوية في أي استراتيجية مواجهة الحروب الصامتة. فالمجتمع الواعي والمحصن ثقافيًا وإعلاميًا هو الأقدر على تمييز التضليل الإعلامي ومقاومة محاولات التفتيت. يتطلب ذلك تطوير برامج توعية شاملة تستهدف كافة شرائح المجتمع، بدءًا من المناهج التعليمية وصولًا إلى حملات التحصين والتوعية الإعلامية الموجهة.
2. بناء القدرات السيبرانية والأمنية:
في ظل تزايد الاعتماد على التكنولوجيا، أصبح الأمن السيبراني جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي. فقد شددت الاستراتيجية على ضرورة بناء قدرات دفاعية وهجومية قوية في الفضاء السيبراني، وتأهيل الكوادر المتخصصة، وتطوير أطر قانونية وتشريعية لمكافحة الجرائم السيبرانية وحماية البيانات الحساسة.
3. تعزيز المرونة الاقتصادية:
إن الاقتصاد القوي والمتنوع هو خط الدفاع الأول ضد التهديدات الاقتصادية. توصي الاستراتيجية بتنويع مصادر الدخل، وتقوية الصناعات الوطنية، وتطوير البنية التحتية الاقتصادية، وبناء احتياطيات استراتيجية لامتصاص الصدمات الاقتصادية المحتملة.
4. تفعيل الدبلوماسية الوقائية والتحالفات الإقليمية:
حيث تشكل الدبلوماسية أداة حاسمة في مواجهة الحروب الصامتة. فمن خلال بناء التحالفات الإقليمية والدولية، وتنسيق المواقف السياسية، يمكن للدول العربية تبادل الخبرات والمعلومات، وتطوير استجابات جماعية للتهديدات المشتركة. كما أن الدبلوماسية الوقائية تساهم في حل النزاعات قبل تفاقمها وتجنب استغلالها من قبل القوى المعادية.
5. إصلاح المؤسسات وتعزيز الحكم الرشيد:
تعد الشفافية، والعدالة، ومكافحة الفساد من العوامل الأساسية في بناء مجتمع قوي ومتماسك. فالأنظمة التي تحظى بثقة شعوبها أقل عرضة للاختراق من خلال أساليب الحروب الصامتة.
واختتمت الاستراتيجية المقترحة، بتوصيات هامة وقدمت خارطة طريق واضحة المعالم.اكدت فيها إن تطبيق هذه الاستراتيجية يتطلب جهدًا وطنيًا وإقليميًا منسقًا، يرتكز على الإرادة السياسية القوية، والتعاون بين مختلف مؤسسات الدولة، والمشاركة الفاعلة من قبل المجتمع المدني. فليست مواجهة هذه الحروب مسؤولية عسكرية او أمنية فحسب، بل هي مسؤولية مجتمعية شاملة تتطلب تضافر الجهود لضمان مستقبل آمن ومزدهر للأمة العربية.
وبهذا الإنجاز، كانت هذه الرسالة اضافة علمية للمكتبة العسكرية العربية، وستفتح بإذن الله تعالى آفاقاً واسعة نحو تطوير الفكر العسكري بما يواكب التحديات والمتغيرات على الساحة الإقليمية والدولية، سعيًا لتعزيز أمن واستقرار بلادنا العزيزة والوطن العربي الكبير.
هذا والله من وراء القصد.!