كتب/محمد ناصر العولقي
كانت بركة العمياء ، رحمها الله ، رمزا من رموز مدينة جعار الاجتماعية ، وقد أتت أمي بركة الى جعار ، وهي صغيرة - بحسب بعض الروايات - في الستينيات قادمة من بيحان أو من نصاب بشبوة ، ولا ندري مع من أتت؟ ويقال إن اسم والدها مبارك ... وشبت وشابت وماتت في مدينة جعار متجولة بين بيوتها وأزقتها وحواريها وشوارعها ، وكانت تطوف في طرقاتها بلا دليل سوى عصاها ، وعادة ما كانت تنام في الشارع كالقرفصاء ماسكة العصى ، وعندما يمر من جانبها الذاهبون الى الصلاة فجرا كانت بركة تتعرف على بعض منهم من خلال دقات خطوات مشيهم فتناديهم بأسمائهم .
في معظم الأحيان كانت بركة العمياء ترتاح. بجانب بيت الحاج عبيد الجزار وعبدالله أبو شنب ، وأكثر جلساتها أمام دكان الحاج احمد يحي المحلوي أو دكان الجعدبي ( معرض بن فليس للإكترونيات حاليا ) .
كان معها مجموعة من الأغراض :
كرسي صغير تعلقه بحبل على كتفها الأيمن عندما تتجول ، وتجلس عليه في النهار عندما ترتاح من التجول ، وتسند رأسها إليه عند النوم في المساء ، وكانت تحمل في خصرها رزمة مفاتيح ، وتحمل على كتفها ايضا علبة حليب فارغة معلقة بخيط اما دانو او دتش بيبي ، وتحتفظ في القصعة بالعانات والشلنجات التي يعطيها لها اهل الخير ، أما الشيء المميز الذي كان لديها فهو عصاها الغليضة ( النبوت ) التي تتوكأ عليها ، وتهش بها على نفسها من مشاغبات الكبار والصغار ، وكانت تحمل على ظهرها خشبه تشبه المحر ( هيج البقر ) .
لا أحد من الأطفال عادة يمر في السوق دون أن يحرص على أن يتصدف بركة العمياء في أحد زوايا السوق ، وكنا ونحن صغار نتسلى بأذية بركة ، ويكون رد فعلها الأول هو التهويش بعصا النبوت التي لا تفارقها ، وإذا لم نرتدع تقوم برمينا بالحجارة التي كانت تحرص على أن تكومها بجانبها ، ثم تهددنا بأهالينا ، فقد كانت تعرفنا من أصواتنا .. هذا ابن فلان وهذا ابن فلانة وتهدّدنا بأنها ستخبر أهالينا لكي نرتدع عنها :
- حتى انته يا بن محمد ناصر... تمام تمام با قول لأمي قمر .
اذكر مرّة أن كانت بركة عندنا في البيت ، وعادة عندما تأتي بركة الى بيت من بيوت الحافة يتخابر أطفال الحافة ، ويتجمعون في البيت الذي تقصده ، وكان الوقت حينها في إحدى ليالي رمضان ، ونساء الحافة يتسامرن في غرفة أخرى ، فخلّيناها لمّا تدخل الحمّام ، عزّكم الله ، وفتحنا القصعة ووجدنا فيها قليلا من العانات ونصف شلن ، وكان مجرد حب استطلاع وفضول ولم يأخذ أحد منا أي شيء حسبما اتذكر ، فلما عادت بركة عرفت بما فعلناه ، فجلست تراخص وتدعوي علينا وعلى أهالينا ، وحصّلنا بسببها ضرب في تلك الليلة الى أن حرّمنا نتعرض لقرابيعها مرة اخرى .
الله يرحمك يا أماه بركة وينوّر قبرك بالمغفرة والرضوان ويسكنك فسيح جناته