آخر تحديث :السبت-11 أكتوبر 2025-11:59م

تحت مبرر الاقتصاد: الأبعاد الحقيقية لعملية التجزئة الكبرى للأمة العربية

السبت - 11 أكتوبر 2025 - الساعة 08:53 م

حافظ الشجيفي
بقلم: حافظ الشجيفي
- ارشيف الكاتب

تاريخ التفاعل بين القوى الغربية والمنطقة العربية يحمل في مساره التاريخي فصولاً تتجاوز السرديات التقليدية المتداولة او الشائعة بين الناس بل وحتى تلك السرديات التي تعلمناها في المدارس فالسطح الظاهر لعملية السيطرة الغربية على الوطن العربي لم يكن يختزل المقصد كله ضمن الإطار الاقتصادي البحت بل فقد كان الهدف الاقتصادي، ، مجرد غطاء لتحقيق هدف سياسي أبعد غوراً وأشد خطورة، يتمحور حول تقطيع أوصال الجسد العربي الكبير الواحد إلى شعوب ودول متفرقة ومستقلة.

وهذا التفسير هو ما يضيء على التزامن المذهل الذي رافق مراحل هذا المشروع. فالاحتلال الاستعماري المتعدد للأقطار العربية لم يتم بشكل عشوائي أو متلاحق بل ظهر متزامناً تقريباً في التوقيت جرى تنفيذه وفق خطة مركزية واضحة والأمر الأكثر دلالة على ذلك هو أن الرحيل الاستعماري نفسه تم ايضا ضمن سياق زمني متقارب، بعد إنجاز الهدف الأسمى المتمثل في التجزئة الجغرافية والسياسية.

واستكمالاً لهذه الخطة، فعندما قررت الدول الاستعمارية الرحيل بعد ان حققت اهدافها في التقسيم عمدت إلى دعم الثورات والحركات الوطنية المحلية ضدها من خلف الواجهة في جزء من استراتيجية بالغة الدهاء استهدفت إيهام الشعوب الواقعة تحت سيطرتها بأن التحرر قد تم بفضل الرفض الشعبي والكفاح المسلح، وأن القوى المستعمرة قد خرجت مدحورة ومطُرودة بقوة الإرادة الوطنية والشعبية بهدف نزع أي شبهة عن المقاصد الحقيقية للاحتلال والانسحاب الغربي، بحيث لا يساور الشعوب العربية أدنى شك في أن التقسيم الكياني وإقامة حدود فاصلة على الأرض والخرائط كان هو الهدف الأخير الذي تحقق بنجاح.

على ان مغادرة القوى الغربية للمنطقة لم تُنهي فصول المشروع التفكيكي، بل كانت بمثابة نقلة نوعية في أدوات التنفيذ. حيث وضعت هذه القوى نُخباً حاكمة محلية على سُدة الحكم في كل منطقة كانت تحتلها بعد تحولها إلى دولة مستقلة. ومهمة هذه النُخب، سواء بوعي كامل أو كجزء من سياق هيكلي تلقائي، تمحورت حول تكريس وتثبيت التقسيم بين الأقطار العربية المقسمة حتى يصبح مقبولاً وراسخاً رسمياً في وعي الشعوب من خلال استمرارية هؤلاء الحكام لفترات زمنية طويلة على رأس السلطة، وكذلك الصراعات التي أُديرت بينهم حول ترسيم الحدود ومناطق النفوذ، اذ لم تكن مجرد حوادث عارضة. بل كانت عملية منظمة، هدفها المباشر هو ترسيخ تلك الحدود بشكل قاطع ليس على الخريطة وكفى، بل في الوجدان والوعي الجمعي للشعوب العربية التي باتت مقسمة.

ولازالت المسيرة التقسيمية قائمة حيث لم تتوقف عند ذلك الحد عبر خطوة تالية، تتمثل في محاولة تقسيم المقسم بالفعل عبر مشروع الفيدراليات والأقاليم الذي يجري الترويج له حاليا في العديد من الدول العربية في حلقة متقدمة تستهدف تفتيت الكيانات والدول القائمة إلى وحدات أصغر، مما يضمن ألا تستطيع الشعوب العربية العودة إلى وضعها الطبيعي التاريخي المتمثل في الوحدة العربية الشاملة. لان الوحدة، العربية بطبيعتها، تمثل تحدياً استراتيجياً وخطرًا مباشراً يهدد المصالح الجيوسياسية للقوى الغربية، مما يفسر الإصرار على استدامة وإعادة إنتاج أدوات التجزئة على كافة المستويات.

وهكذا، يتبدى المشهد السياسي العربي كعملية ممنهجة، متشابكة التفاصيل، تنطلق من هدف سياسي خفيّ استُخدم فيه الاقتصاد كذريعة، واستُخدم فيه الانسحاب كإيهام بالهزيمة، واستُخدمت فيه النخب الحاكمة كأداة لترسيخ الواقع الجديد، لتتوج الآن بمحاولات التفتيت الداخلي ضمن مشروع الأقاليم، مؤكدة أن التجزئة الكبرى للأمة ليست مجرد نتيجة عرضية للتاريخ بل هي هدف استراتيجي مستدام.