يواصل أستاذ القانون الدولي د. توفيق جزوليت الكتابة في الشأن الجنوبي والساحة الجنوبية التي تشتعل اليوم مطالبة بإعلان دولة الجنوب العربي. وتعيد عدن تايم نشر تناول جديد للبروفيسور جزوليت:
تُعدّ مفاهيم الانفصال وفكّ الارتباط واستعادة الدولة من أكثر المفاهيم تداولًا في القانون الدولي المعاصر، إذ يؤدي استخدام المصطلحات السياسية دون تدقيق قانوني إلى تشويه طبيعة القضايا الوطنية أمام الرأي العام والمجتمع الدولي. وفي حالة الجنوب، يبرز خلاف جوهري حول توصيف ما يجري: هل هو انفصال؟ أم فكّ ارتباط؟ أم استعادة دولة؟
ومن منظور القانون الدولي، فإن هذا التوصيف يترتب عليه فهم مختلف للشرعية والحقوق السياسية. فالانفصال (Separation / Secession) هو خروج جزء من إقليم دولة قائمة لتكوين دولة جديدة مستقلة، يتم من إقليم تابع لدولة معترف بها، ويؤدي إلى إنشاء دولة جديدة. القانون الدولي لا يشجّعه، لكنه قد يوافق عليه إذا تأكد وجود اضطهاد جسيم أو تم عبر استفتاء حر. وفي هذا الصدد، هناك نموذج واضح هو انفصال جنوب السودان (2011)، الذي كان جزءًا من السودان، وجرت عملية الاستفتاء بإشراف دولي نتجت عنها دولة جديدة مستقلة.
بيد أن فكّ الارتباط (Disengagement / Dissolution of Union) هو إنهاء رابطة قانونية أو سياسية قائمة بين طرفين كانا متحدين باتفاق سابق، ويتم عبر إجراء قانوني أو سياسي يكون بين دولتين متحدتين أو ضمن صيغة خاصة كالاتحاد أو الوصاية أو الإدارة المشتركة. والخلاصة أن فكّ الارتباط يؤدي إلى إنهاء علاقة قائمة، في حين ينتج عن الانفصال اقتطاع إقليم من دولة. ويُعد نموذج فكّ الارتباط الحاصل بين التشيك وسلوفاكيا (1993) مثالًا بارزًا، حيث كانتا دولة واحدة (تشيكوسلوفاكيا) وتم الانفصال باتفاق سلمي.
أما استعادة الدولة (Restoration of Statehood) فتعني عودة دولة كانت موجودة قانونيًا ثم فقدت سيادتها بسبب فشل وحدة أو احتلال أو ضم غير مشروع. ومن وجهة نظر القانون الدولي، فإن الدولة لم تفقد شخصيتها القانونية، وإنما فُقدت ممارسة السيادة فقط. كما أن فرض الوحدة بقوة الاحتلال لا يُنهي وجود الدولة قانونيًا، ويتجلى ذلك في نموذج استعادة دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، التي كانت دولًا مستقلة ضُمّت إلى الاتحاد السوفيتي، واعتُبرت استعادتها عودة للسيادة لا انفصالًا.
أما مصطلح فكّ الارتباط فهو تعبير سياسي يُستخدم لوصف إنهاء وحدة سياسية قامت سابقًا باتفاق أو إجراء قانوني، ولا يُعدّ مفهومًا محددًا بذاته في القانون الدولي، بل يُقيَّم وفق ظروف كل حالة ومدى مشروعية الوحدة الأصلية والوسائل المستخدمة لإنهائها. في المقابل، يستند مفهوم استعادة الدولة إلى أن الجنوب كان دولة مستقلة ذات سيادة وعضوية في الأمم المتحدة، وأن غياب الشراكة الحقيقية وفرض الأمر الواقع بالقوة بعد حرب 1994 أدى إلى تهميش الجنوب وإقصاء كوادره واستهداف قياداته، ما أفقد الوحدة مضمونها وتحولت إلى سبب للصراع. وبناءً على ذلك، فإن المطالبة لا تهدف إلى إنشاء كيان جديد، بل إلى إحياء دولة سابقة ذات شخصية قانونية دولية.
ويجد هذا الطرح سندًا في مفهوم معروف في القانون الدولي، وهو استمرارية الدولة (State Continuity)، وحق الشعوب في تقرير المصير كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية.
وهناك عدة دول كانت قائمة بذاتها ثم دخلت في وحدة مع دولة أخرى، وبعد فشل تلك الوحدة استعادت استقلالها. ومن أبرز الأمثلة: سوريا التي كانت دولة مستقلة ثم دخلت في وحدة مع مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة، وبعد فشل الوحدة انفصلت سوريا واستعادت دولتها. وكذلك السنغال التي كانت دولة مستقلة ودخلت في اتحاد مع مالي باسم اتحاد مالي، وبعد فشل الاتحاد عام 1960 استعادت السنغال استقلالها. كما كانت غامبيا دولة مستقلة دخلت اتحادًا مع السنغال باسم كونفدرالية سينيغامبيا، وبعد فشل الكونفدرالية عادت دولة مستقلة بالكامل. إضافة إلى دول البلطيق التي اعتُبر استقلالها في التسعينيات استعادة لدول قائمة قبل ضمها القسري للاتحاد السوفيتي.
وتُظهر هذه الأمثلة أن المجتمع الدولي قد يتعامل بإيجابية مع قضايا استعادة الدولة عندما تتوافر عناصر أساسية، أبرزها وجود دولة سابقة معترف بها، وإرادة شعبية واضحة، وسلطة قادرة على إدارة الدولة واحترام التزامات القانون الدولي.
إن توصيف قضية الجنوب على أنها استعادة دولة يعكس رؤية سياسية وقانونية تسعى إلى وضع القضية في إطارها التاريخي والشرعي، بعيدًا عن توصيفات الانفصال أو التفكك. وهو طرح يستند إلى مبادئ معترف بها في القانون الدولي، ويهدف إلى إعادة تعريف القضية بوصفها مسألة حقوق وسيادة، لا مجرد نزاع جغرافي أو إداري.