في زمنٍ ما، يوم كانت المجاعة تلفّ القرى، والناس يقتاتون على القليل، كان هناك مزارع يمني، رجل بسيط لكنه حكيم بالفطرة.
بعد موسمٍ متعب من الزراعة، جمع محصوله من الحبوب بعرق جبينه، لكنه لم يجد مكانًا آمنًا يحفظ فيه تعبه وثمرة سنته. كان الليل يحمل معه خوف النهب، والنهار يحمل هاجس الجوع القادم.
فكّر المزارع طويلًا... ثم أخذ معوله وبدأ يحفر في باطن الأرض، وفي أسفل درج منزله. لم يكن يحفر قبرًا، بل حياةً جديدة لقمحه وشعيره ومحصول الذرة الذي كان يُعدّ الطعام الرئيسي لهم.
صنع مدفنًا ترابيًا متينًا، بطّنه بالطين والرماد، وسقفه بالحجارة، ثم أغلقه بإحكام كأنه يخبئ كنزًا ثمينًا.
مرّت الشهور، وجاء الجفاف، واشتدت الحاجة... لكن المزارع اليمني كان مطمئنًا. فتح مدفنه، وأخرج حبوبه كما دفنها، نظيفة، يابسة، صالحة للأكل والزراعة.
حكاية هذا المزارع لم تكن مجرد قصة نجاة، بل شهادة على ذكاء الإنسان اليمني الذي عرف كيف يواجه القحط والإهمال بالابتكار والإرادة.
كانت المدافن الترابية في كثير من المناطق اليمنية — من يافع إلى إب، ومن شبام إلى أبين، ومن صنعاء إلى تعز، ومن حجة إلى المحويت — تمثّل بنوك الحبوب القديمة. لا كهرباء، لا برادات، لا مستودعات... فقط تراب وخبرة، وإيمان بأن الأرض لا تخون من يُحسن حفظها.
بهذه الطريقة، استطاع أجدادنا أن ينجوا من المجاعات، وأن يضمنوا لأنفسهم لقمة العيش في أقسى الظروف، حين غابت الحماية الرسمية وضعف الدعم المؤسسي.
واليوم، ونحن نعيش في زمن التغيّر المناخي وارتفاع الأسعار، ربما حان الوقت لنتعلّم من تلك المدافن… أن نزرع بعقل، ونخزّن بحكمة، ونفكّر كما كان يفكّر أجدادنا.
فالتراث ليس حكايةً من الماضي، بل رسالةً للمستقبل.
---
رسالتي للمزارع:
احفظ من غلّتك ما يكفيك، ولا تعتمد على السوق وحده.
كما قالوا قديمًا:
من خبّى قوتَه ما ذلّت هيبته.
/عبدالقادر السميطي
دلتا أبين