كتب/حافظ الشجيفي
بعد ساعات قليلة من مقتل الجاني محمد صادق المخلافي الذي أقدم على اغتيال الشهيدة افتهان المشهري، مديرة مكتب النظافة في تعز، انتشر مقطع فيديو له على نطاق واسع، مقدماً نفسه كشهادة من القبر تشرح دوافع الجريمة. لكن الفيديو، بدلاً من أن يضيء الحقيقة، جاء أشبه بنسيج مُحكم من التناقضات والأقوال الملتوية التي تثير الشك أكثر مما تقدم من إجابات. فتحليل مضامينه يكشف أن الهدف الحقيقي ليس الاعتراف، بل تمييع القضية وتحويل الأنظار عن المجرمين الحقيقيين عبر حبكة درامية هشة لا تتحمل أدنى مقاييس المنطق.
تبدأ الحبكة بمحاولة تبسيط الدافع إلى درجة تثير السخرية، حيث ادعى الجاني أن سبب الجريمة هو امتناع الشهيدة عن صرف رواتب ثلاثة أشهر مقابل حراسته لمبنى الصندوق. لكن العقل ينفي أن يقدم إنسان على جريمة قتل بشعة مثل هذه لأجل مبلغ مالي كان من الممكن الحصول عليه عبر المتابعة القانونية أو الوساطات العرفية وطرق كثيرة اخرى وحتي عبر القضاء، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن هذه الحجة ليست سوى غطاء تافه لإخفاء دوافع أعمق وأخطر. فالتكلف الواضح في هذا التبرير يشير إلى أن الجاني كان يؤدي نصاً مكتوباً له.
ثم تتعقد الحبكة أكثر عندما يذكر الجاني أنه اشتكى الأمر لشخص يدعى محمد سعيد قاسم " المخلافي "ابن عمه"، . وهنا يطرح سؤال جوهري: ما علاقة هذا الشخص بالقضية إذا كان لا يمتلك أي سلطة وظيفية على الشهيدة أو مكتب النظافة؟ لماذا لم يذهب الجاني إلى المحافظ، وهو المسؤول المباشر الذي يمكنه حل النزاع، إذا كانت شكواه بريئة حقاً؟ فالإيحاء بوجود "ابن العم" في الصورة يبدو محاولة متعمدة لجر اسم لا علاقة له ظاهرياً بالأحداث إلى قلب الجريمة، وكأن الهدف هو خلق مسار وهمي للتحقيق.
الأمر الأكثر إثارة للريبة هو ما زعم الجاني أن ابن عمه قد اقترحه. فبينما كان مقترح الجاني – حسب روايته – هو إطلاق النار على سيارة الشهيدة فقط كتحذير، فإن ابن عمه "محمد سعيد" طلب منه – وفق الفيديو – قتلها بشكل كامل تحت حجة أن إطلاق النار على السيارة سيؤدي إلى "عواقب وخيمة وإلى قلع الجميع". وهذه النقطة هي قلب التضليل. فكيف يكون إطلاق النار على سيارة، وهو عمل إجرامي بحد ذاته، أكثر خطورة من جريمة قتل مديرة مكتب بدم بارد ووسط سوق مكتظ بالناس؟ حيث ينقلب المنطق هنا رأساً على عقب. فالعواقب الوخيمة الحقيقية تنتج عن القتل لا عن التخويف، مما يعني أن هذا الجزء من الرواية مصمم لخلق صورة أن "محمد سعيد" هو المحرض والدماغ المدبر، بينما الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً. فلو كان "محمد سعيد" هو المحرض الحقيقي وفاعل خفي ذو نفوذ، لكان الأجدر به أن يخشى من تبعات القتل التي لا محالة ستجلب تحقيقاً أوسع وضجة أكبر، بينما تبعات إطلاق النار على سيارة تكون محصورة في الغالب. وهذا التناقض الصارخ يرجح أن اسم "محمد سعيد" قد أُلصق بالجريمة إما لتضليل المحققين أو لأنه هو الآخر قد يكون ضحية لتلفيق أكبر.
لكن اللغز الأكبر والأكثر إثارة في هذه المسرحية هو توقيت تسجيل الفيديو ونشره. كيف علم الجاني بأنه سُوف يقتل فسجل هذا المقطع؟ ولماذا لم ينشره وهو على قيد الحياة إذا كان يريد كشف "الحقيقة" أو الدفاع عن نفسه؟
الإجابة تبدو واضحة في سياق التسلسل الزمني للأحداث. فالتسجيل لم يكن مبادرة شخصية من الجاني، بل كان إجراءً احترازياً من المجرمين الحقيقيين الذين كانوا قد بيتوا النية لتصفيته منذ اللحظة الأولى. حيث أجبروه على تسجيل هذا الفيديو على وعد منهم بأنهم سيحمونه، بينما كانت النية قد انعقدت للتخلص منه بعد أن يؤدي دوره. والغرض كان إعداده كبش فداء، وإنتاج رواية جاهزة تلقى في وسائل الإعلام مباشرة بعد تصفيته، لقطع الطريق على أي تحقيق جاد قد يكشف حقيقتهم في حالة ما إذا ألقي القبض عليه حياً وتم تسلمبمه للنيابة. عندها قد يكشف عن خيوط الجريمة الحقيقية وشبكة المحرضين والممولين الذين يقفون خلفه.
المهم فان الفيديو لا يزيد عن كونه أداة في مسرحية إجرامية محكمة. فالجريمة لم تكن نابعة من نزاع على رواتب، والجاني لم يكن سوى أداة تنفيذ في يد قوى أرادت التخلص من الشهيدة افتهان لأسباب تتعلق بمصالح كبيرة، ثم التخلص منه هو الآخر لسد أي منفذ للحقيقة. ونشر الفيديو بعد مقتله مباشرة هو محاولة يائسة لتحويل القضية من جريمة قتل مدبرة إلى قصة انتقام شخصي مشوشة، والهدف النهائي هو تشتيت الرأي العام وتوجيه أصابع الاتهام إلى جهات وهمية، بينما المجرمون الحقيقيون يمرون من بين الشقوق. والحقيقة الوحيدة الجلية هي أن أفعال ما بعد الجريمة، من تسجيل مريب إلى تصفية جسدية، تثبت أن دم الشهيدة افتهان لم يسقط إلا كجزء من مخطط أكبر، وأن العدالة لن تتحقق إلا بسحب الخيوط من بداياتها الحقيقية، بعيداً عن ظلال الفيديو المزيف.