كتب/مروان الشاطري:
لم تكن حرارة الصيف في مدينة جعار بمحافظة أبين مجرد موجة حر عابرة، بل كانت جحيماً لا يُطاق، يلف المدينة بكاملها. كان الحر خانقاً يسرق الأنفاس، تزيده انقطاعات الكهرباء المتكررة – بل والممتدة – قسوةً وعنفاً. لم يكن الليل يختلف عن النهار، فالمولدات الصاخبة ومكيفات الطاقات الشمسية لم تكن متاحة للجميع، والظلمة كانت تخيم على كل شيء، ممتزجةً بهواء ثقيل وحار لا يحركه سوى أنين الأهالي وهم يحاولون عبثاً الحصول على قسط من النوم أو لحظة من هواء عليل.
في خضم هذه الظروف القاسية، لم يكن الخيار مجرد رفاهية، بل أصبح مسألة ضرورة للبقاء بعد أن رأيت الطفح الجلدي يأكل أنامل طفلي الصغير ويشوه ملامحه. كان الهروب إلى عدن حلماً يراود الكثيرين، لكنه كان حلماً مرهقاً ومكلفاً. وقفتُ ذات يوم أحسب راتبي المتواضع، فاكتشفتُ بحسرة أنه لا يكفي حتى لشراء تذكرة الخلاص، ناهيك عن تغطية تكاليف الحياة الجديدة. كان الراتب هزيلاً أمام مواجهة واقع مرير: إيجار شقة، وفواتير أكل وشرب، ومواصلات، واتصالات، وبترول للسيارة، لم نكن نفكر بالرحلات والكماليات، كانت أحلامنا بسيطة في البحث عن ساعة أو ساعتين كهرباء في اليوم نجتمع حولها ونشحن بها مستلزماتنا ونطفي بها لهيب صيف حار أحرق جلودنا وأرواحنا وأحرق مدخراتنا.
لكن الطامة الكبرى كانت في تكاليف النقل نفسه. نقل العفش من أبين إلى عدن كان مغامرة مكلفة وخطيرة. ثم لم تكن الشقة في عدن جاهزة، فاضطررنا لمواجهة سلسلة من النفقات التي لم نكن نتخيلها: تركيب الكهرباء، وشراء وتركيب المراوح، واللجوء إلى حل الطاقة الشمسية الباهظ كحل أخير، وتركيب خزانات المياه لمواجهة انقطاعها، وحتى تركيب باب جديد وغرفة النوم. كل هذا بالإضافة إلى المبالغ الطائلة التي تقدم كتأمين وإيجار مقدم ودفع عمولة الدلال.
كانت الأرقام مفزعة. وعندما استشرت والدي الحكيم، نظر إليّ بعينين مليئتين بالقلق وقال: "يا ولدي، هذه المبالغ كبيرة عليك ولن تتحملها." كانت كلماته منطقية وواقعية، نابعة من خبرة الحياة وخوف الأب على ابنه من الديون والإرهاق. لكن قلبي كان يميل إلى المغامرة، إلى البحث عن بصيص أمل.
لم أكن وحدي توكلت على الله حق التوكل، ثم استشرت عدداً من الأصدقاء المخلصين وكانوا خير سندٍ وعون؛ وقفوا معي وساندوني معنوياً ومادياً، وشجعوني على اتخاذ القرار، وكان دعمهم هو الوقود الذي أنار طريقي في أحلك اللحظات.
ها أنا اليوم، بعد مرور أربع سنوات على تلك المحنة، ألتفتُ إلى الوراء وأنا ممتنٌ لكل تلك التحديات. لقد كانت رحلة شاقة وكاد اليأس يغلبني، لكن التوكل على الله أولاً، ثم الدعم الاجتماعي، والإصرار على تغيير الواقع للأفضل، كانت هي مفاتيح النجاح.
الحمد لله الذي فرج الكربة ويسر الأمر. لم تكن الرحلة سهلة، لكنها علمتني أن بعد العسر يسراً، وأن الإنسان أقوى مما يتخيل عندما يقرر أن يقاوم من أجل حياة أفضل. واليوم، أصبحت ذكرى تلك المعاناة دافعاً لي لأكون سنداً لغيري كما كان أصدقائي سنداً لي.