كتب/نائف زين ناصر:
لم تكن إفتهان المشهري مجرد مدير عام لصندوق النظافة والتحسين في محافظة تعز بل كانت امرأةً تُشبه المدينة نفسها: متعبة، لكنها تصرّ على أن تظل واقفة، جميلة رغم الندوب، صلبة رغم الخذلان. في صباحٍ دامٍ، تحوّل عملها الدؤوب إلى قصة اغتيالٍ مدوية هزّت كل بيتٍ في تعز بل وفي كل محافظة ومدينة وقرية في البلد وأطلقت موجة غضبٍ وحزنٍ ما زالت تتسع حتى اللحظة.
أحد عمال النظافة، وقد انهارت دموعه على كتفه، قال:"كنا نرى الأستاذة إفتهان تخرج بيننا تشاركنا، تشجعنا. لم تكن تتعالى، كانت واحدة منا.اليوم قتلوها، وكأنهم قتلوا المدينة بأكملها."
أمٌّ تسكن بالقرب من جولة سنان، مسرح الجريمة، قالت وهي لا تزال مصدومة:
"سمعنا الرصاص، ركضنا لنرى لم أصدق أن المستهدفة هي إفتهان. إنهم يطلقون النار حتى على من يعمل من أجل الناس... أي قلبٍ هذا؟"حتى طفل صغير كان يمسك بيد أبيه أمام مستشفى الثورة صاح:"بابا، ليش يقتلوها؟ هي تنظف شوارعنا!"
الشهيدة أفتهان المشهري كانت إمرأة واجهت الصعاب ودُفنت في الصمت ام يكن عملها سهلاً إدارة صندوق النظافة في مدينة محاصرة، منكوبة، متعبة من الحرب والانقسام، هو تحدٍّ أشبه بالمعركة اليومية. قلة الإمكانات، تهديدات، نقص الرواتب، وانعدام الدعم.. ومع ذلك، ظلت إفتهان المشهري تقول لزملائها:
"لا يهم، سنبقى ننظف شوارعنا... لا أحد غيرنا سيهتم."
لقد حملت على كتفيها عبئاً ثقيلاً لا يحتمله الرجال في مواقع كثيرة، وواجهت واقعاً فاسداً ومليئاً بالتجاذبات، لكنها لم تهرب، لم تصمت، لم تتوقف.
أن تُغتال إفتهان في وضح النهار، وسط شارع مكتظ، هو أكثر من اغتيال. إنها رسالة رعب: لا أحد في مأمن، حتى من يخدم الناس
رصاصات الغدر التي استقرت في جسدها لم تستهدفها وحدها بل استهدفت كل من يحلم بتعز نظيفة، آمنة، محمية
فور إعلان الخبر، خرج عمال النظافة، رفاقها في الميدان، بقرار جماعي: إضراب شامل، تعليق العمل، وترك القمامة في الشوارع.
صرخوا بصوت واحد:
"إذا كانت إفتهان قُتلت بلا حساب، فما قيمة عملنا؟"هذا القرار ليس مجرد احتجاج وظيفي، بل صرخة شعبية تقول: لا خدمات بلا أمن، ولا مدينة بلا عدالة.
إن اغتيال إفتهان ليس مجرد استهداف لشخصية قيادية بل هو اغتيال لصوت المرأة العاملة، لحقها في أن تكون جزءاً من القرار والخدمة والقيادة.
إنها رسالة ترهيب للنساء: "ابقين في الظل وإلا..."
لكن دماء إفتهان تقول العكس: إن غيابها سيوقظ وعياً مضاعفاً، وسيجعل صوتهن أعلى وأقوى.
تعز اليوم أمام مفترق طرق. أمامها خياران لا ثالث لهما:
إما أن يتحول اغتيال إفتهان المشهري إلى ملف مفتوح بلا نهاية، كسائر الجرائم السابقة، فنعيش في دوامة الإفلات من العقاب أو أن يُقدَّم القتلة فوراً للمحاكمة، ويُكسر حاجز الرعب، ويُعاد للمدينة شيء من الثقة بأن دماء أبنائها وبناتها ليست رخيصة.
في كل شارع، في كل زقاق، في كل عامل يرتدي بزته البرتقالية ويحمل مكنسته... تسكن الآن روح إفتهان المشهري هي لم ترحل بصمت، بل تركت وراءها سؤالاً في ضمير كل شخص :
"هل سنظل ندفن ضحايانا، ونكتفي بالبيانات؟ أم أن الوقت قد حان لنقول للقتلة: كفى؟"لقد اغتالوا جسدها، لكنهم لم يغتالوا رسالتها إفتهان هي الآن عنوان لمدينة تبحث عن كرامة عن نظافة، عن عدالة... عن حياة