كتب/ مروان الشاطري
ولدي الحبيب في ظلام اليوم أتوسل إلى غدك أن يكون أفضلا،
أكتب إليك الآن، وأنت نائم في غرفتك التي لا يزعجها سوى همس المولد الكهربائي المتقطع، أو صمت الظلام الكثيف حين ينقطع. أكتب إليك من قلب مدينة كانت يوماً جوهرة تلمع، واليوم تشبه جرحاً نازفاً تحت وطأة واقع لا يرحم. عدن مدينتنا قد تحولت إلى سجن كبير تُغلق أبوابه في وجه أحلامنا بواقع قاسٍ اسمه الحياة.
لا أعرف متى ستقرأ هذه الكلمات ربما بعد سنوات، حين تُشرق شمس أفضل على هذه الأرض، أو ربما وأنت بعيد في مكان آمن، تبحث عن جذورك في ذاكرة كُتبت بالألم. لكني أكتبها اليوم لأن ثقلاً يخنق قلبي، واعتذاراً لا يسعني حبسه في صدري.
أعتذر أولاً وأخيراً لأنني جئت بك إلى هذا العالم في زمن الانهيار. حين أنظر إلى طفولتك المُسروقة – طفولة حُرمت من ضوء ثابت يقرأ به كتاباً، ومن مدرسة تفتح أبوابها بانتظام، ومن أمن يسمح لك باللعب في الشارع دون خوف – يُطبق الحزن على روحي. كنت أحلم لك بسماء زرقاء وبحر نظيف وحدائق ترويها الحياة، لا ببحار من الظلام والتوتر والحرمان الذي يرافقك حتى في نومك. هذا الظلام الدامس الذي نعيشه ساعاتٍ وساعات، ليس مجرد انقطاع للكهرباء؛ إنه رمز لانطفاء الأمل في أعيننا جميعاً.
أعتذر لأنك ترى أباك عاجزاً عن تأمين أبسط مقومات الحياة الكريمة فالعملة تنهار كالرماد والتضخم وحشٌ يلتهم كل شيء وكل وجبة نتشاركها تذكرني بأنني أخفق في أن أكون الحصن الذي يحميك. الوظائف شحت، والأعمال أغلقت أبوابها، والفرص تبدو كسراب في صحراء قاحلة. نحاول أنا وأمك بكل جهدنا، لكن الأرض تنهار تحت أقدامنا.
أعتذر لأنك محروم من حقك في التعليم فالمدارس التي كانت تُشكل العقول وتبني الأوطان، أغلقت أبوابها أو تحولت إلى هياكل خاوية تفتقر لأدنى مقومات التعليم والمعلمون بلا مستحقات وحتى إن فتحت المدارس فكيف تدرس في ظلام دامس أو حر خانق؟ كيف يتعلم جيل في ظل هذا الانهيار؟ يخشى قلبي أن يكون مستقبلك قد سُرق قبل أن يبدأ، وأن تدفع أنت ثمن فشل جيلنا وحروب لم تخترها.
أعتذر لأنك محبوس في هذا السجن الواسع الذي لايشبه الوطن. أرى نظراتك تتساءل لماذا لا نسافر؟ لماذا لا نبحث عن مكان آخر؟ والحقيقة المرة يا ولدي هي أن الأبواب موصدة فتكاليف السفر ضرب من الخيال، وتأشيرات الخروج حلم بعيد المنال، والفرص للهروب من هذا الواقع شبه معدومة. نشعر أننا محاصرون بين جدران اليأس وغياب الحلول. فعدن التي كانت ميناءً للعالم، أصبحت سجناً لأبنائها.
ولدي الحبيب هذا الاعتذار ليس استسلاماً، بل هو اعتراف بثقل المسؤولية التي أحملها تجاهك. أريدك أن تعرف حين تكبر وتقرأ هذا كننا في خضم الجحيم، لم نتوقف عن حبك يوما أو التفكير في مستقبل أفضل لك، فهذا هو الشمعة الوحيدة التي لا ينطفئ لهيبها في ظلامنا. نكافح يومياً ولو ببسمة نرسمها على وجوهنا رغم القهر والألم، ولو بقطرة ماء باردة في عز الحر، ولو بقصة نحكيها لك في ظلام الليل، لنقول لك: أنت أهم ما في حياتنا.
أكتب هذه الرسالة كشهادة على زمننا هذا، زمن التدهور الاقتصادي والظلام وانهيار الخدمات وانعدام الفرص. أضعها بين يديك كوثيقة من الماضي، أرجو أن يكون ماضيًا لا يعود. لتعلم كم عانينا، وكم حلمنا لك بمستقبل أفضل. لتعلم أن كل يوم نعيشه معك رغم القسوة هو يوم نقاتل فيه من أجلك.
لا أستطيع أن أعدك بالمعجزات، فقوتي محدودة وواقعنا قاسٍ. لكني أعدك بشيء واحد أنني سأظل أقف وسأظل أحاول، ولو ببطء، ولو بخطوات متعثرة. سأظل أبحث عن شق في جدار هذا السجن من أجلك.
ربما يأتي اليوم الذي تقرأ فيه هذه الكلمات وأنت تنظر إلى عدن مزدهرة، إلى مدارس مكتظة بالطلاب الواثقين، إلى شوارع مضاءة وأبواب مفتوحة على آفاق العالم. ربما. وإذا حدث ذلك فتذكر أن هذا الظلام الذي نعيشه اليوم كان مجرد فصل مظلم في كتاب تاريخ مدينتنا التي كانت جميلة يوما ما، فصل كتبته أيادي الخراب، لكن الفصل القادم – فصل نهضتكم – سيكتبه أبناء مثلك، تعلموا من دروس الظلام قيمة النور.
أحبك أكثر مما تستطيع الكلمات أن تحمل، أدعو لك بغدٍ أكثر إشراقاً من يومنا هذا،
أبوك المكافح والحالم لك،
من عدن المحاصرة بالظلام
١١ يوليو ٢٠٢٥