آخر تحديث :السبت-31 مايو 2025-01:17ص
أخبار وتقارير


اجتياح الجنوب عام 1994م

اجتياح الجنوب عام 1994م
الثلاثاء - 27 مايو 2025 - 09:50 م بتوقيت عدن
- أبين تايم/ خاص

الحلقة الثالثة

كتب/د . علوي عمر بن فريد

لم تكن حرب صيف 1994 “حربًا أهلية” كما يصفها بعض المحللين، ولا “صراعًا بين طرفين سياسيين على السلطة كما يحاول الإعلام الرسمي ترويجها. لقد كانت بكل وضوح غزوًا مسلحًا شنه الشمال بقيادة علي عبد الله صالح على الجنوب بهدف إسقاط مشروع الدولة الجنوبية، واستكمال ما لم تستطع اتفاقية الوحدة تمريره بالقانون. كانت تلك الحرب إعلانًا صريحًا عن نهاية أي وهم يسمى شراكة وبداية عهد جديد من الاحتلال والنهب والاستباحة المنظمة والضم والإلحاق لأرض الجنوب ومؤسساته.


1. الأسباب العميقة: هل كانت الوحدة شراكة أم استدراجاً للفريسة؟


منذ اللحظة الأولى لإعلان ما سمي بـ”الوحدة اليمنية”، ظهرت الفجوة الواسعة بين مفهوم الشراكة في الجنوب، ومفهوم الضم والإلحاق في الشمال. لم يكن النظام الحاكم في صنعاء يرى في الجنوب شريكًا، بل غنيمة جديدة يمكنه السيطرة عليها بحجة الوحدة. بدأ التمهيد لذلك بخلق الفوضى، وإقصاء الكوادر الجنوبية، واستهداف الشخصيات الوطنية، ومن ثم اختلاق الأزمات السياسية والأمنية لتبرير التحرك العسكري.


2. مجازر الغزو: ما لا يريدون توثيقه


في صيف 1994، اجتاح الجيش الشمالي مدن الجنوب بكل أنواع الأسلحة، بمشاركة ميليشيات قبلية ودينية، وبفتاوى دينية كاذبة وملفقة اعتبرت الجنوبيين كفارًا يجب قتالهم. هذه الحرب لم تكن فقط عسكرية، بل كانت تطهيرًا سياسيًا ومؤسساتيًا.


تم نهب الوزارات والمؤسسات بالكامل، تم طرد آلاف الضباط والموظفين من أعمالهم تحت ذريعة “إعادة الهيكلة”. تم اغتيال عدد كبير من القادة السياسيين والعسكريين الجنوبيين، أو اعتقالهم وتعذيبهم، أو نفيهم إلى الخارج. كما سيطر نافذون شماليون على الأراضي العامة والخاصة، وحتى على شواطئ وموانئ استراتيجية ومباني وأملاك سيادية لدولة الجنوب ، وما سبق ذلك كله من نهب لأملاك المواطنين في مدينة عدن وحدها التي بلغت 67 الف منزل بالتأميم المباشر تمت السيطرة عليها بوضع اليد لشماليون من الحجرية وتعز من أنصار عبد الفتاح إسماعيل الأمين العام ومنظر الحزب الاشتراكي اليمني !!؟؟


كانت عدن، العاصمة التاريخية للجنوب، أول من دفع الثمن. المدينة التي كانت يومًا ما ملتقى عالميًا للتجارة والثقافة، تحوّلت إلى ثكنة عسكرية ومسرح للنهب والإذلال.


3. دور المجتمع الدولي وصراع الجنوب


لم يكن الجنوب العربي في عزلة تامة خلال العدوان الشمالي عليه في صيف 1994، بل استند إلى جملة من المرجعيات السياسية والحقوقية التي تعزز مشروعية قضيته وتدين الغزو. ومن أبرز تلك المرجعيات، أربع وثائق مفصلية توازي، بل تفوق في أهميتها المرجعيات التي يتذرع بها ما يُسمى بالشرعية اليمنية اليوم:


الأولى: وثيقة العهد والاتفاق، التي أُبرمت في العاصمة الأردنية عمّان بتاريخ 20 فبراير 1994 برعاية مباشرة من الملك الحسين بن طلال، وهي الوثيقة التي كان يفترض أن تؤسس لمرحلة شراكة سياسية بين الشمال والجنوب، لكنها قوبلت لاحقًا بالغدر من قبل صنعاء.


الثانية: قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 924 و931، الصادرة في يونيو 1994، والتي اعتبرت ما يحدث تهديدًا للسلام وطالبت بوقف إطلاق النار، في إقرار ضمني بوجود طرفين متحاربين، وليس “تمرّدًا داخليًا” كما حاول النظام الشمالي الترويج له .


الثالثة: بيان المجلس الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي في دورته الحادية والخمسين، الصادر في 5 يونيو 1994 بمدينة أبها.


الرابعة: بيان مجلس وزراء دول إعلان دمشق، الصادر من الكويت بتاريخ 5-6 يونيو 1994، والذي شدّد على أهمية الحل السياسي ورفض التصعيد العسكري.


ووسط هذا الإجماع العربي والخليجي، سُجّل موقفٌ شاذ من دولة قطر، التي كانت الدولة الوحيدة التي تحفظت على القرار الأممي رقم 924، مبررة اعتراضها بعدم تضمين القرار لنص صريح يضمن “وحدة اليمن”. هذا التحفظ القطري فُهم حينها كغطاء سياسي للنظام الشمالي لمواصلة اجتياحه الدموي للجنوب، وهو ما رفضته المملكة العربية السعودية، التي رأت أن النص على “الوحدة” سيمنح صنعاء تفويضًا لمواصلة المجازر ضد المدنيين الجنوبيين.

4. ما بعد الحرب: الجنوب تحت سلطة الأمر الواقع

بعد إعلان “الانتصار” في 7 يوليو 1994، بدأ فصل جديد من الجرائم، تحوّلت فيه عدن إلى مدينة منكوبة اقتصاديًا وجرى إحلال موظفين شماليين محل الكوادر الجنوبية في مؤسسات الدولة.

تم تفكيك الجيش الجنوبي بشكل كامل، ولم يُسمح لأي قائد جنوبي بالحفاظ على موقعه أو رتبته. تعرض الجنوب لتغيير ديمغرافي مقصود من خلال توطين شماليين وما يعرف لديهم ب ” المجاهدين العرب ” أو كما يدعونهم – بالأفغان العرب – ونهب الأراضي المملوكة للدولة الجنوبية أو بعض أملاك مواطنيها وتحديدا الساحلية والزراعية، بل وإحل أولئك الدخلاء مكان الملاك الأصليين الجنوبيين بما فيهم أبناء عدن ذاتها !!


لم تكن تلك ممارسات سلطة “شرعية” تجاه شعبها، بل كانت أساليب دولة محتلة فرضت سطوتها بالقوة، وأرادت تغيير هوية الجنوب العربي باستخراج هويات يمنية للقطعان من الجنسيات الدخيلة التي شاركت في حروب أفغانستان كمكافئة مجانية لهم عند اجتياح الجنوب العربي بقصد مسح ذاكرته الجمعية.


حرب 1994 لم تنته بانتهاء العمليات العسكرية، بل بدأت عندها مرحلة الاحتلال الفعلي للجنوب. لقد خُطط لهذا الغزو بدقة، ونُفّذ بعنف، وصمت مريب دوليًا. من هذه الزاوية فقط يمكننا فهم طبيعة الأزمة اليمنية، لا بوصفها صراعًا داخليًا عاديًا، بل كجريمة سياسية وتاريخية ضد شعبٍ كان يتمتع باستقلاله، ثم تم ابتلاعه بالقوة. وما لم يُعالج هذا الجذر، سيظل كل حديث عن حلول أو تسويات مجرد محاولات لتجميل واقع الاحتلال المستمر. الجنوب العربي يطالب اليوم بحقه في استعادة كرامته وسيادته وحريته ، لا أكثر ولا أقل.

د . علوي