تقرير/ منير النقيب
في مشهد مأساوي يعكس حجم المعاناة المتفاقمة، تغرق العاصمة عدن في ظلام دامس وسط موجة حر خانقة، بعدما خرجت غالبية محطاتها الكهربائية عن الخدمة، لتجد المدينة نفسها رهينة لواقع قاسٍ يشبه حرب إبادة جماعية ببطء وصمت، في ظل تجاهل تام من الجهات الحكومية المسؤولة، وغياب أي حلول عاجلة تنقذ السكان من هذا الجحيم اليومي.
*مدينة الكهرباء الأولى تغرق في الظلام
العاصمة عدن التي كانت من أوئل المدن في الجزيرة العربية تشهد دخول التيار الكهربائي مطلع القرن الماضي، تقف اليوم شاهدة على انهيار مريع في منظومة الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء. ورغم تاريخها العريق في البنية التحتية والطاقة، تعيش عدن أسوأ مراحلها في صيف 2025، إذ تحولت حرارة الشمس إلى سيف مسلط على رقاب السكان، مع انعدام شبه كلي لخدمة الكهرباء التي تمثل شريان حياة في هذه الأجواء القاسية.
*خروج الخدمة بالكامل
مصادر في المؤسسة العامة للكهرباء كشفت عن خروج محطة المنصورة – إحدى المحطات الرئيسية التي تغذي المدينة – عن الخدمة بالكامل مساء الثلاثاء، نتيجة نفاد مادة المازوت الضرورية لتشغيلها. المحطة كانت تعمل بقدرة تشغيلية تصل إلى 40 ميجاوات، ومع خروجها تقلّصت قدرة التوليد بشكل حاد.
وباتت محطة الرئيس – التي تعمل بالنفط الخام – هي الوحيدة المتبقية في الخدمة، بطاقة لا تتجاوز 84 ميجاوات، بينما تحتاج عدن إلى أكثر من 650 ميجاوات لتغطية الحد الأدنى من الطلب اليومي. هذه الفجوة الشاسعة بين العرض والطلب تعني أن معظم أحياء المدينة تغرق في العتمة لأكثر من 12 ساعة متواصلة في اليوم، مع تشغيل لا يتجاوز ساعتين إلى ثلاث في أحسن الأحوال.
*تحذير من الأسوأ
وفي بيان رسمي مقتضب، أعلنت مؤسسة الكهرباء عن تطبيق برنامج تقنين قاسٍ للتيار الكهربائي، يقضي بتشغيل الكهرباء لمدة ساعتين فقط، مقابل انقطاع يستمر حتى 12 ساعة، مع التحذير من إمكانية ارتفاع فترة الانقطاع في أي لحظة، بسبب نقص الوقود أو أعطال متوقعة في المحطة الوحيدة المتبقية.
وقال مصدر في المؤسسة إن الوقود المتوفر لا يكفي لتشغيل المحطة الوحيدة لأيام قادمة، في حال استمر توقف الإمدادات، ما ينذر بتوقف كامل لجميع محطات التوليد، ودخول المدينة في ظلام شامل.
*حياة السكان مهددة معاناة
انعكاسات هذا الانهيار تجاوزت حدود الانزعاج والضيق، لتتحول إلى أزمة إنسانية خطيرة و أعلنت مصادر طبية في عدد من المستشفيات أن أقسام الطوارئ والعناية المركزة باتت مهددة بالإغلاق بسبب عدم توفر الطاقة لتشغيل الأجهزة الطبية. كما أن المرضى وكبار السن يعانون بشدة من درجات الحرارة التي تجاوزت 40 درجة مئوية، في ظل انعدام التكييف أو حتى المراوح الكهربائية.
وفي المنازل، يعيش المواطنون بين نارين: حر الصيف القاسي وعتمة ليلية تخنق الأنفاس، وسط انعدام الحلول وارتفاع أسعار المولدات والوقود في السوق السوداء، ما جعل الحصول على بدائل للكهرباء حلماً بعيد المنال لأغلب الأسر ذات الدخل المحدود.
أما الأسواق، فتشهد حالة من الشلل الجزئي نتيجة تلف المواد الغذائية، خاصة في المحال الصغيرة التي تعتمد على الكهرباء لحفظ المنتجات، ما يهدد بانفجار أزمة غذائية مصاحبة.
*صمت حكومي مطبق ومخاوف من الانفجار الشعبي
المؤسف أن هذه الكارثة تجري وسط صمت رسمي مطبق من قبل الحكومة المعترف بها دوليًا، التي لم تصدر حتى الآن أي موقف واضح، سواء عبر وزارة الكهرباء أو الجهات المعنية، رغم التحذيرات المستمرة من فشل المنظومة بشكل كامل.
في المقابل، تتصاعد حالة الغضب في الشارع العدني، حيث خرجت خلال الأيام الماضية وقفات احتجاجية شعبية في عدد من الأحياء، تطالب بحلول فورية وإقالة المسؤولين عن هذا التدهور المتعمد، كما وصفه بعض الناشطين.
ما يجري في عدن ليس مجرد خلل فني أو أزمة طارئة.. بل سياسة عقاب جماعي تُمارس بحق سكان هذه المدينة الصامدة. متى تتحرك الضمائر؟".
تعمد الإهمال وتسييس الملف الخدمي
يرى محللون أن ما يحدث في عدن يتجاوز حدود العجز الإداري، ليتحول إلى استهداف ممنهج للمدينة وأهلها، ضمن صراع النفوذ السياسي في الجنوب، خاصة في ظل تقارير تتحدث عن توقف متعمد لتوريد الوقود من قبل جهات نافذة، في محاولة للضغط على المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يدير المحافظات الجنوبية.
ويقول الباحث السياسي عبدالحكيم السقاف في تصريح خاص: "ما لم يتم تحييد الخدمات عن التجاذبات السياسية، فإن عدن ستظل تدفع الثمن وحدها، والمواطن البسيط هو الضحية في نهاية المطاف".
*غياب المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة
رغم إعلان الأمم المتحدة والمنظمات الدولية مرارًا دعمها للشعب اليمني في أزماته، إلا أن ما تشهده عدن اليوم من أزمة إنسانية غير مسبوقة لا يلقى الاهتمام الكافي من هذه الجهات، ما يثير تساؤلات حول ازدواجية المعايير في الاستجابة الإنسانية.
تعيش عدن اليوم فصول مأساة لا تختلف عن الحصار، حيث يقف أكثر من مليون ونصف مواطن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الموت تحت أشعة الشمس، أو الموت البطيء في العتمة واليأس. ومع غياب أي بارقة أمل في حلول فورية، تبقى هذه المدينة الصابرة بحاجة إلى صرخة إنقاذ، تخرجها من هذا الواقع الكارثي، وتعيد لها حقها في الحياة والخدمة والكرامة.